مقالات

ثورة المتروكين السورية.. هكذا بدأنا (1)

* عمر إدلبي

كان مفعول ثورة تونس وهروب بن علي يشبه السحر على أحلامنا، سحرٌ تبعته دهشة لا توصف مع تداعي الأحداث في ميدان التحرير في مصر، وتنحي حسني مبارك لاحقاً، ما وضع السؤال عن تحرك شعبي ثوري في سوريا ضد نظام الأسد موضع النقاش الجدي، بعد أن كان مجرد أحلام تدغدغ مخيلة بعض الشباب في صفوف النخب السورية.
اجتماعات كثيرة متواصلة نظمها الشباب السوريون الطامحون للتغير في مطلع العام 2011، بدأت تناقش إمكانية وجدوى الخروج للشارع، كانت تصطدم بمخاوف قمعه من قبل أجهزة النظام بعنف ودموية، وبدت مخاوف قادة المعارضة التقليدية أعمق، وصلت في أحيان كثيرة إلى حد تحذيرنا نحن الشباب من مخاطر أن يتسبب حراكنا المفترض في الشارع في موجة اعتقالات وتصفيات واسعة لرموز وكوادر المعارضة، وبالتالي إنهاء أي فرصة مستقبلية لحراك معارض يقود إلى إقناع نظام الأسد بتفعيل وعوده بالتغيير وإطلاق الحريات، وما كان يشعرنا بالخيبة والقلق من مواقف قيادة المعارضة التقليدية أن عدداً من قادتها كان يتوهم أو يريد أن يصدق أن بشار الأسد سيقوم لا محالة وفي وقت قريب بإصلاحات واسعة على نظام حكمه الاستبدادي، لتجنب تعرضه لحراك معارض على غرار ما حدث في مصر وتونس!
ومع تسارع الأحداث والنتائج الإيجابية لثورتي تونس ومصر، وتضامن العالم مع ثوار القاهرة وتونس، والمواقف المشجعة لقادة الدول الكبرى ضد بن علي ومبارك، زادت جرعة الأمل، و رجح لدى الشباب الثوري السوري خيار تجاوز مخاوف الجيل الأكبر من المعارضة السورية والإصرار على الانطلاق للشارع دون انتظار مبادرة قد لا تأتي من قيادة المعارضة، وقرروا التحرك حاملين مطالب التغيير السياسي الديمقراطي إلى مسامع الناس، آملين في احتضان الشعب لهذا الحراك ومطالبه، وبالتالي تحصين النخب الشابة من ردات فعل عنفية وقمعية سيتبعها نظام الأسد فيما لو بقي الشارع السوري بعيداً عن حراك نخبه.
كانت نقاشاتنا كثيرة ومتعددة المواضيع، وعمل بعض الشباب والفتيات على رصد قابلية المجتمع السوري للتحرك ضد نظامه، وعادوا بملاحظات ومشاهدات مهمة ومتنوعة، تفيد بأن معظم فئات المجتمع تعتقد أن نظام الحكم غير جاد في الإصلاح، وأن فساد أجهزته الإدارية يرجع لطبيعة النظام وأسلوبه في تصريف النفوذ ومنح المناصب تبعاً للولاءات، وأن رضى الناس عن تعامل النظام مع حرياتهم في الحضيض، وأبرز نتيجة حصلت عليها مجموعات الرصد كانت التأييد الكاسح لثورتي تونس ومصر.
مع بداية شهر شباط / فبراير من العام 2011 حسمت مجموعات عدة من الشباب السوري أمرها، وتنادت لإطلاق تجمعين احتجاجيين أمام مبنى مجلس الشعب بدمشق يومي الجمعة والسبت 4 و 5 شباط فبراير، تحت مسمى “يوم الغضب السوري”، وهو الحراك الذي فشل فشلاً ذريعاً، ليمنح هذا الفشل نظام الأسد جرعة عالية من الثقة باستحالة قيام حراك ذي صفة شعبية ضده.
أمام مبنى مجلس الشعب في دمشق وبعد صلاة يوم الجمعة 4 شباط، وقفت مع ناشطين اثنين آخرين نراقب تحركات مكثفة لدوريات أجهزة الأمن، وجموع كبيرة من عناصر الشرطة كانت تتمركز آلياتها في شارع الصالحية وتتوزع في محيط مبنى المجلس، كنا ننتظر وصول مجموعة من الشباب الناشطين لينضموا إلينا، وكنا نتوقع أن يبلغ عددنا العشرين ناشطاً، لتتعالى فجأة صرخات غير مفهومة قرب باب مقهى الروضة، وعلى الفور بدأ تراكض عناصر الأمن والشرطة باتجاه مقهى الروضة، أسرعنا لاستطلاع الأمر، فإذا بعشرات من عناصر الأمن باللباس المدني يقبضون على شاب يرتدي معطفاً أسود اللون وقبعة من الصوف بلون رمادي، ويوسعونه ضرباً قبل أن يسقط أرضاً، ويستكمل عناصر الأمن مهمة السيطرة عليه تماماً ويبدأون بركله ودهسه بأقدامهم الحاقدة، ومن ثم يحملونه إلى سيارة أمنية من نوع أوبل، وتنطلق به مسرعة إلى المجهول.
حتى اليوم لم نعرف من كان هذا الشاب الذي لم نسمع منه أي هتاف، فقط كان يصرخ بشكل هستيري من الألم جراء الضرب الوحشي، وفقط كانت شتائم عناصر الأمن القذرة تتعالى متهمة الشاب بأنه عميل!
كان خوفنا بلا حدود، نرتجف بشكل لا يمكن وصفه، ونتصبب عرقاً رغم برودة الأجواء، ولم نبادر لفعل شيء، كان الرعب يلجمنا تماماً، وبلا أي نقاش سرنا نحو مقهى قريب من مبنى القيادة القطرية لحزب البعث في بداية جسر الرئيس.
جلسنا صامتين نراقب كل من حولنا، ونتحاشى النظر إلى بعضنا، كنا مهزومين تماماً، وخجلين إلى أقصى الحدود.
بعد ساعة قررنا العودة إلى شارع الصالحية لنستطلع المكان الذي كان من المفترض أن نتجمع فيه ونطلق صرخاتنا ضد نظام الطاغية، كانت دوريات الأمن ما زالت في المكان، لكن عدد العناصر أقل، ولم نعثر على أي من الناشطين الذين كنا ننتظرهم، فقط.. بعض من قطرات دم ذلك الشاب المعتقل كانت تتوزع على حجار الرصيف أمام باب مقهى الروضة.
كان “عبد الكريم ص” يزداد غضباً بمرور الوقت، وما أن صعدنا الحافلة باتجاه مدينتنا حمص، حتى بدأ بالبكاء، يبكي بصمت ويشيح نظره عني، ملقياً رأسه على زجاج نافذة الحافلة، وفي محطة البولمانات في حمص تركني دون أي كلمة وانطلق مسرعاً ليغادر المحطة مشياً على الأقدام، خرجت وراءه محاولاً اصطحابه معي في سيارة أجرة إلى حي البياضة حيث نسكن كلانا، لكنه رفض دون أن يقول كلمة، وتابع خطاه بانكسار يشق القلب.
صباح اليوم التالي كنا نترقب أي خبر عن تجمع معارض، كنا نتوقع من مجموعات أخرى أن تتحرك، لكن انتظارنا طال، ونام عناصر أجهزة أمن النظام هانئين تلك الليلة، بعد أن تأكد لهم أن “يوم الغضب السوري” مر بسلام، وخابت كل الدعوات التي بالغت كثيراً في الإعلان عن حشود ستزلزل أركان نظام الأسد، ووحدها أمالنا من أصيبت آنذاك بزلزال مدمر، بقينا نعاني من خيباته وآلامه أكثر من شهر، ولم نبدأ بالتعافي منه إلا ظهيرة يوم الخامس عشر من آذار/مارس، لنشفى تماماً في يوم الكرامة، 18 آذار / مارس 2011.

… يتبع

الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *