أبحاث سياسية دراسات وأبحاث

“هيئة تحرير الشام” كسلطة أمر واقع… مواجهة المجتمع و”القائمة السوداء”

أولًا: المقدمة

ثانيًا: المجتمع في إدلب بين المهجّرين والسكان المحليين

ثالثًا: هيئة تحرير الشام.. تعويم الماء فوق الزيت

رابعًا: الاحتجاجات ضد الهيئة.. تاريخها وأسبابها ودوافعها

خامسًا: سياسة الانفتاح الحذر.. رهانات الظروف

سادسًا: الخاتمة

مقدمة

لم يكن النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون المستفيدين الوحيدين من عودة مناطق الجنوب والوسط السوري إلى سيطرة النظام وتهجير المعارضين، مسلحين ومدنيين، إلى الشمال السوري، حيث برزت هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقًا”، كطرف استفاد من التهجير والتجميع في الشمال السوري، بشكل لافت([1]).

ومن أبرز الفوائد التي حققتها هيئة تحرير الشام، استفادتها من جمع شتات مقاتليها الذين كانوا ينتشرون في مناطق عدة من الجغرافيا السورية، طوال سبع سنين، منذ ظهور جبهة النصرة كفصيل مقاتل في سورية يتبع تنظيم القاعدة، لأول مرة في كانون الثاني/ يناير من العام 2012، حتى ربيع العام 2020، حيث انسحب مقاتلوها من مواقعهم في ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي.

تجمّع مقاتلي هيئة تحرير الشام في الشمال السوري أتاح أمامهم فرصة كبرى استغلتها قيادة الهيئة في إضعاف الفصائل الأخرى المتبقية من شتات “الجيش الحر” والحركات الإسلامية المقاتلة الأخرى، والسيطرة على أراض جديدة ومنشآت عسكرية ومعابر حدودية، ومنها معبر عتمة وخربة الجوز وباب الهوى، كما استولت الهيئة على أسلحة وذخائر من خصومها المهزومين، ومنهم جيش المجاهدين وحركة حزم وحركة أحرار الشام وحركة نور الدين زنكي، إضافة إلى أكثر من عشرين كيانًا عسكريًا معارضًا آخر.

وتتمثل الإفادة النوعية الثانية لهيئة تحرير الشام، من تجميع المهجرين من مختلف المناطق السورية في الشمال السوري، بوقوع حوالي أكثر من مليوني سوري، محليين ونازحين، تحت حكم الهيئة المباشر، ما منح الهيئة أهمية خاصة، كسلطة أمر واقع تدير شؤون الحياة العامة لهذا العدد الهائل من المدنيين، خاصة بعد الاستقرار النسبي للواقع الميداني العسكري والأمني، على إثر إعلان الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، اتفاق وقف إطلاق النار في الشمال السوري، في السادس من آذار/ مارس من العام الماضي 2020، حيث باتت إدلب منطقة نفوذ كاملة لهيئة تحرير الشام، تمارس عليها “حكومة الإنقاذ” التي أنشأتها الهيئة، سلطة إدارة الشؤون العامة المدنية، وقد أدى ذلك إلى ظهور حالات تماس وصدام مباشر مع المجتمع، نتجت عن تحمّل الهيئة وأذرعها الأمنية والمدنية أعباء تأمين متطلبات الحياة اليومية للمدنيين، ولجوئها إلى ترويض المجتمع وتطويعه بالقوة والإكراه.

المجتمع في إدلب بين المهجّرين والسكان المحليين:

تحتل إدلب أهمية إستراتيجية كبرى، تتمثل في موقعها على الطريق الدولي الواصل بين تركيا ومناطق الشمال السوري، وصولًا إلى مناطق سيطرة نظام الأسد وحلفائه في حماة والساحل السوري، إضافة إلى كونها عقدة مواصلات بين مناطق حلب وشرق الفرات ومناطق الساحل السوري.

بلغ عدد سكان إدلب قبل العام 2011 حوالي مليون ونصف المليون نسمة، مع مساحة نحو 6 آلاف كلم2، وفي آخر إحصائية لفريق “منسقو استجابة سورية”، ازداد عدد السكان في مناطق سيطرة المعارضة بمحافظة إدلب والأرياف المحيطة بها من حلب وحماة واللاذقية، إلى أربعة ملايين ومئة وستة وثمانين ألف نسمة، نصفهم من السكان المحليين، ونصفهم الآخر نازحون ومهجرون (مليونان وواحد وثمانين ألفًا). في حين بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين ستة آلاف وخمسمئة شخص. وتضم هذه المنطقة 1293 مخيمًا، بينها 382 مخيمًا عشوائيًا، ويعيش في المخيمات حوالي مليون نازح ومهجر، بينهم 185 ألف شخص في المخيمات العشوائية.

وتكتظ مناطق محافظة إدلب بنحو نصف عدد المقيمين في مناطق سيطرة المعارضة السورية، وبذلك تنفرد هيئة تحرير الشام بإدارة شؤون السكان والنازحين الذين يجدون أنفسهم مرتبطين كليًا بالهيئة وجهازها الإداري المدني “حكومة الإنقاذ”، في مجالات الأمن والقضاء والتعليم والصحة والشؤون المدنية وكل الخدمات الأخرى.

هيئة تحرير الشام.. تعويم الماء فوق الزيت

بالرغم من هالة القوة والتماسك التنظيمي والتشدد الأيديولوجي المحيطة بهيئة تحرير الشام، وسيطرتها على الملفات (الإدارية والاقتصادية والأمنية) في محافظة إدلب، وما ظهر من سياساتها وتكتيكاتها المرنة التي تبديها في علاقاتها السياسية مع الأطراف الإقليمية والدولية في الشأن السياسي، وتوظيف هذه البراغماتية لصالح استمرار الفصيل وعدم الدخول في صراع مفتوح مع الأطراف الدولية؛ فإن تحليل واقع حالها الداخلي يظهر نقاط ضعف أثّرت، وقد تؤثر بشكل كبير مستقبلًا، في وجودها وقدراتها على البقاء.

  • – على المستوى العسكري: تراجع نفوذ الهيئة بشكل كبير، بعد العمليات الأخيرة التي قادها النظام وحلفاؤه على أرياف حلب وإدلب وحماة، حيث تكبدت الهيئة خسائر أفقدتها السيطرة على مساحات جغرافية واسعة، لا سيما في خان شيخون ومورك، وتسبّب خروج أفراد ومجموعات (أجانب/ سوريين) متشددة وعابرة للحدود، من صفوف الهيئة، في خسارة الهيئة قوة ضاربة عسكرية، وأظهر ضعفًا واضحًا على المستوى التنظيمي، خاصة مع تحول تلك المجموعات إلى عدو محتمل في الساحة، وهناك من عدّ خروجَ هذه المجموعات من الهيئة عاملًا مساهمًا في تعويم الهيئة كقوة محلية أقلّ تشددًا مما كانت عليه، وسيكون خطر هذه المجموعات المنشقة والمقاتلين الأجانب المنسحبين من الهيئة خطرًا جديًا عليها، في حال انضمامهم إلى الفصيلين المتشددين المنافسين للهيئة: تنظيم حرّاس الدين، وتنظيم الحزب الإسلامي التركستاني.

ولا يخفى على المراقبين أن الانتشار العسكري التركي الواسع في الشمال السوري زاحم الهيئة على مناطق نفوذها، ومكّن مجموعات مختلفة من “الجيش الوطني” و”الجبهة الوطنية للتحرير” من النفاذ إلى تلك المناطق التي كانت محظورة عليها قبل الانتشار العسكري التركي.

  • – على المستوى الاجتماعي: مُنيت العلاقة بين الهيئة والمجتمع المحليّ، بشقّيه الموالي لها والمدنيّ الذي حكمت علية الظروف بالإقامة في إدلب، بانتكاسات كبيرة في الآونة الأخيرة، بفعل عوامل عدة، أهمها الأداء القتالي الضعيف للهيئة ضد الهجوم الأخير للنظام وحلفائه الروس والإيرانيين؛ فالمجتمع الذي كان يتقبل سياسات الهيئة المتشددة على صعيد الحريات الاجتماعية متطلعًا إليها كقوة قادرة على حمايته من بطش النظام، فقَد الثقة بالهيئة عسكريًا، وخصوصًا في الحملة العسكرية التي سيطر خلالها النظام على الطرق الدولية، وما تخللها من انسحابات مفاجئة للهيئة، وما سبقها من معارك ريف حماة الشمالي. إضافة إلى أن انتقال ورقة حماية المدنيين، من يد الهيئة إلى القوات العسكرية التركية بشكل مباشر والفصائل المدعومة منها، أثّر في مستوى “شرعية” الهيئة في نظر المدنيين، وأفقدها مبررات وجودها.

ومع إدراك قيادة الهيئة أن تراجعها العسكري وسيطرتها الإدارية والاقتصادية وتحكّمها في شؤون المدنيين، سيكون له انعكاسات سلبية على المجتمع المحلي، ذهبت الهيئة نحو انتهاج أسلوب إعلامي ترويجي، اعتمد على الظهور المتكرر لأميرها “الجولاني”، وتصدير “حكومة الإنقاذ” كنظام مدني حاكم لإدلب يتبع منهج الشريعة الاسلامية، في محاولة لكسب بعض التعاطف من المجتمع، لكن ضغوط المعيشة وصعوباتها، وبخاصة بعد تفشي وباء كورونا، والهزات المالية الكبيرة بسبب تدني سعر صرف الليرة السورية والتركية، عاكسا مساعي الهيئة، وبدت محاولات تسويق قائدها وحكومتها أمام المجتمع المحلي محاولات يائسة للهروب إلى الأمام من الأعباء الأمنية والاقتصادية التي تعصف بالمجتمع، وقد أدى ذلك إلى ازدياد الاحتقان والغضب الشعبي والاحتجاجات المتكررة ضد الهيئة وسياساتها الأمنية والإدارية.

  • – على مستوى علاقاتها بالأطراف الإقليمية والدولية: بالتدقيق في تكتيكات الهيئة مع الأطراف الإقليمية والدولية، نجد أن الهيئة اتبعت نهجًا مرنًا في التعامل مع الطرف التركي، وأبدت تعاونًا مقبولًا في تطبيق شروط الاتفاق التركي الروسي الخاص بخطوط التماس ودوريات المراقبة المشتركة، وتجنبت الصدام المباشر مع الشروط الروسية لإبعاد سلاحها الثقيل عن المناطق التي حددها الاتفاق كمناطق منزوعة السلاح، لتغدو الهيئة شريكًا غير معلن في مسار أستانا، بعد أن قضت على جميع الفصائل في مناطق سيطرتها، وقدمت نفسها على أنها القوة الوحيدة في الساحة، التي ستضطر تركيا وروسيا إلى الاستعانة بها لتسيير أمور الطرق الدولية وحفظ الأمان حولها([2]).

وأبقت الهيئة نفسها بعيدة من مواجهة الضربات الدولية للفصائل المتشددة الجهادية، ومن المرجح أن الهيئة انخرطت في تعاون استخباراتي مع هذه الضربات، ويتحدث خصومها عن جانب مظلم من سياساتها بهذا الخصوص، تتمثل في تقديم نفسها كطرفٍ يواجه الجهاديين، وبخاصة الأجانب منهم، سواء أكانوا في صفوفها أو في تنظيمات مستقلة، مثل تنظيم “حراس الدين” أو الفارين من الدولة الإسلامية “داعش”، واستخدامهم كأوراق اعتماد لها، تتيح للهيئة تقديم نفسها كشريك موثوق في أي ترتيبات أو مفاوضات واتفاقات مستقبلية أمنية إقليمية ودولية.

وعدم تعرّض الهيئة لهجمات عسكرية أو أمنية مباشرة، من قبل قوات التحالف الدولي التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، يبدو مؤشرًا بالغ الدلالة على نجاح تكتيكاتها على هذا الصعيد حتى الآن، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الزيارة القصيرة للمندوبة الدائمة السابقة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، كيلي كرافت، إلى الحدود التركية السورية، برفقة المبعوث الأميركي الخاص السابق إلى سورية جيمس جيفري، في يوم الثلاثاء 3 آذار/ مارس من العام الماضي 2020، مرورًا بمعبر باب الهوى الذي تسيطر عليه هيئة تحرير الشام!

والجدير بالذكر أن الهيئة قامت بمحاولات عدة لمغازلة واشنطن، في إطار سعيها لتطبيع العلاقات مع الدول الغربية ورفع اسمها من قائمة التنظيمات الإرهابية، وقد أكد الشرعي العام في “هيئة تحرير الشام”، عبد الرحيم عطون، الملقب بـ ”أبو عبد الله الشامي”، في مقابلة له مع صحيفة “لو تمبس” السويسرية، في 4 أيلول/ سبتمبر 2020، أن الهيئة تريد “الخروج من القائمة السوداء (…) وعندها فقط ستتمكن المنطقة من التعافي”، بحسب عطون.

لكن آخر رد على هذه المحاولات جاء على لسان المبعوث السابق لوزارة الخارجية الأميركية الخاص بالشؤون السورية، جويل ريبورن، الذي أكد أن “إزالة جماعة مثل (تحرير الشام) عن قوائم الإرهاب ما زال يمثل احتمالًا بعيدًا”.([3])

ولا يخرج لقاء قائد الهيئة، أبو محمد الجولاني، قبل أيام قليلة مع الصحفي الأميركي، مارتن سميث، عن هذا الإطار، حيث تعوّل الهيئة على قبولها من الإدارة الأميركية الجديدة في عهد جو بايدن، كلاعب أساسي لا غنى عن التعامل معه في أي ترتيبات جديدة في سورية.

وعلى الرغم من أن هذا التكتيك لا يبدو كافيًا لاستعادة الهيئة بعض ثقة المجتمع المحلي بها، ولا لقبولها دوليًا، فإنه قد يضمن لها بعض الاستقرار على المستوى القريب في علاقتها بالأطراف الدولية، ويمكّنها من كسب الوقت وتجنب أي معركة استئصال شاملة عليها في المدى المنظور.

5643164531321 - حرية برس Horrya press
“أبو محمد الجولاني” زعيم هيئة تحرير الشام في ظهور له بريف اللاذقية في 22 أغسطس 2018

الاحتجاجات ضد الهيئة… تاريخها وأسبابها ودوافعها

لم تنجح سياسة الهيئة المتّبعة، في الهروب من مسؤولياتها العسكرية إلى تعزيز دورها الأمني والاقتصادي والإعلامي، في إقناع الرأي العام الشعبي بأحقية سيطرتها وبشرعية تفكيكها للفصائل وبمقدرتها الإدارية، فبدأ ناشطون بالنشر ضدها ونقد سياستها والعمل على إسقاطها، بالاستعانة بقوى محلية تنتمي إلى بقايا التنظيمات التي عملت الهيئة على ضربها وتفكيكها، وقد واجهت الهيئة هذه الحملات والاحتجاجات بعنف وحسم، حيث شنّت حملة اعتقالات واسعة شملت قياديين في فصائل وناشطين إعلاميين معارضين لها وشخصيات اجتماعية، وجهت إلى بعضهم تهمة “العمالة لقوى خارجية”، كما شملت حملة الاعتقالات عددًا من “المجاهدين” وخاصة الأجانب منهم، لضمان استمرار التنسيق والقبول الدولي لها، ومحاولة فرض نفسها عبر هذه الملفات الأمنية كقوة أمر واقع، داخليًا وخارجيًا.

واعتمدت الهيئة سياسةً اقتصاديةً منفتحة تجاه النظام السوري، بهدف تنشيط التبادل التجاري وتعزيز موارد المعابر المشتركة مع مناطق نفوذه، كمورد مالي مهمّ لتمويل الهيئة ذاتيًا، حيث تسعى الهيئة لافتتاح معبر سراقب-سرمين شرقي إدلب، بعد فشلها في ذلك تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية في نيسان/ أبريل العام الماضي، ويشكل لها هذا المعبر بوابة جديدة لتحصيل إيرادات بمئات آلاف الدولارات شهريًا، حيث تفرض اللجنة الاقتصادية التابعة للهيئة رسم عبور مالي على كل شاحنة تعبر المعبر، يراوح بين 100 و250 دولارًا بحسب حمولة الشاحنة ونوع بضائعها، وسيكون معبر سراقب-سرمين، في حال افتتاحه، عامل تعويضٍ للهيئة عن معابر مورك والعيس وقلعة المضيق التي خسرتها في الحملة العسكرية الأخيرة لصالح نظام الأسد.

هذه السياسات، إضافة إلى الفشل الإداري الواضح في تسيير الشؤون العامة للمدنيين، شكلت عوامل استفزاز للمجتمع، وأدت إلى احتقان الشارع، وبدأت التظاهرات المناوئة لها بالخروج عن السيطرة، ففي منتصف العام 2018 بدأت التظاهرات الشعبية ضد الهيئة، على خلفية هجوم الهيئة على عدد من الفصائل، وتوزعت خارطة انتشار نقاط التظاهر على مناطق رئيسية عدة هي (معرة النعمان، سراقب، إدلب، دارة عزة، أريحا، أطمة)، إضافة إلى أرياف هذه المناطق.

وفي أواخر العام 2020، شهدت مناطق الشمال السوري ومنصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإعلامية الثورية ظهور حملة بعنوان “لا للتغييب”، احتجاجًا على ممارسات “هيئة تحرير الشام” التعسفية المتكررة والمتواصلة، في تغييب واعتقال وتعذيب الناشطين والإعلاميين المناوئين للهيئة في سجونها المنتشرة بكثرة في الشمال السوري، ومنها سجون دركوش وجسر الشغور وحارم، وسجن العقاب في جبل الزاوية، وهو أكبر سجون الهيئة وأكثرها شهرة بسمعته السيئة بمعاملة الموقوفين خارج القانون، وكانت هذه الحملة واحدة من أبرز الحملات وأكثرها تنظيمًا بمواجهة الهيئة.

واتهم ناشطون وحقوقيون سوريون الهيئة بتنفيذ أعمال قتل واغتيال لكثير من الناشطين الثوريين، وكان أبرز هذه الحوادث اغتيال الناشطَين الإعلاميَين رائد الفارس وحمود جنيد، في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، في مدينة كفرنبل جنوب إدلب.

 وبحسب ناشطين يعملون على إحصاء انتهاكات “هيئة تحرير الشام”، فإن الهيئة لم تتورع عن اعتقال عشرات الناشطين البارزين، خلال السنوات الأخيرة، منهم القائد الراحل عبد الباسط الساروت، والناشط الراحل رائد الفارس، وهادي العبد الله ومروان الحميد وجمعة العمري والمحامي ياسر السليم وغيرهم الكثير، وهددت معتقلين آخرين بالإعدام في معتقلاتها بعد محاكمات صورية، منهم الناشط أمجد المالح، وبلغ عدد التظاهرات المناوئة للهيئة بين الأعوام 2018 – 2020 (275) مظاهرة ووقفة احتجاجية، أكثرها حصل في الربع الأخير من العام 2020.

ولم تبد الهيئة أي تجاوب مع نداءات المنظمات الحقوقية السورية والدولية، لإطلاق سراح كثير من المعتقلين في سجونها، ولم تتجاوب مع أي من طلبات المؤسسات الحقوقية لزيارة هذه السجون والاطلاع على ظروف المعتقلين فيها، ومن أبرز هذه التقارير التي تناولت أوضاع المعتقلين في سجون الهيئة تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، بعنوان (سوريا: “هيئة تحرير الشام” تمارس الاعتقال والتعذيب – خطوة لترسيخ السيطرة وإسكات المعارضين) الصادر في 28 كانون الثاني/ يناير 2019 ([4]).

وأبرز أسباب الاحتجاج هي:

  1. التنديد بقصف الهيئة للأماكن السكنية خلال فترة الاقتتال الفصائلي.
  2. غضب شعبي واسع من أعمال القتل والاعتقال والتعذيب المتكررة التي شملت ناشطين وإعلاميين وقادة في الجيش الحر على يد عناصر أمن الهيئة.
  3. المطالبة بالإفراج عن المعتقلين في ظلّ حملات الاعتقال الواسعة التي شنتها الهيئة ضد خصومها ومعارضيها ومنتقديها.
  4. التنديد بممارسات وانتهاكات الهيئة داخل أفرعها الأمنية بحق الموقوفين، خصوصًا بعد الشهادات التي أدلى بها معتقلون سابقون عند الهيئة، عن حالات التعذيب المنهجي والإعدامات المتكررة في أقبية أفرعها الأمنية.
  5. التنديد بسياسة فتح المعابر مع النظام وحالة التوأمة الاقتصادية معه.
  6. التنديد بسياسات المجالس المحلية وحكومة الإنقاذ التابعين لها من فرض ضرائب واستيلائهم على كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية، وخاصة بعد تقليص المانحين الدوليين بشكل كبير مساعداتهم للشمال السوري بذريعة سيطرة الهيئة على المنطقة.
  7. الاستياء الشعبي من تقييد الحريات الاجتماعية للمدنيين والتدخل في حياتهم الخاصة.

سياسة الانفتاح الحذر… رهانات الظروف

راهنت الهيئة، في سياستها الرامية إلى احتواء المجتمع وضبطه ومواجهة الاحتجاجات، على ظروف متنوعة، أبرزها تخويف المدنيين من وحشية النظام السوري والتنظيمات الأكثر تطرفًا في الشمال السوري، وترهيبهم بالاتهامات الملفقة كالعمالة للخارج وللنظام.

وتخففت الهيئة في حالات أخرى من مخاطر حكم عدد من المناطق بشكل مباشر، عبر منح الثقة لقيادات محلية قريبة من السكان وموالية للهيئة بآن معًا، (الأتارب في غربي حلب).

وتؤكد كثير من مؤشرات انفتاح الهيئة على المجتمع أنها تتحرك ببطء نحو تخفيف خطابها وسلوكها المتشدد في مسألة الحريات الاجتماعية، فقد تراجع بشكل ملحوظ دور مجموعات “سواعد الخير” التي تتشكل من دعاة وداعيات، مهمتها ضبط سلوك الأفراد وفرض ضوابط قسرية على الناس، وتتشدد في فرض اللباس الشرعي وفصل الذكور عن الإناث، وكانت تظهر بشكل متواصل في الشوارع والأسواق والمدارس والجامعات وسائر الأماكن العامة في إدلب، كجهاز “أمر بالمعروف ونهي عن المنكر”، تدعمها في مهمتها عناصر أمنية، وتخفيف التدخل في الحياة العامة للسكان من قبل الهيئة، أشاع جوًا من الارتياح وجاء بعد احتجاجات المدنيين المتكررة ضد هذه الممارسات.

وبرز في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد انحسار سيطرة الهيئة على مناطق واسعة في الشمال السوري لصالح نظام الأسد، تعاطي الهيئة بشكل منفتح مع الجماعات الدينية المختلفة معها في الخطاب الديني، واتباعها سياسة التغاضي عن وجود هذه الجماعات ونشاطها الدعوي، ومنها جماعة الأشعريين، وجماعة “حزب التحرير”. وفي السياق ذاته، أبدت الهيئة انفتاحًا على إشراك مقربين من جماعة الإخوان المسلمين، وإسلاميين مستقلين آخرين في أجهزة إدارتها المدنية.

وقد شكلت هذه الخطوات بمجموعها نقلة نوعية في نهج إدارة الهيئة للنزاع الديني مع الجماعات المختلفة معها، ونزع فتيل الصدام معها، وأسهمت في تقريب الهيئة أكثر فأكثر من الجانب التركي الذي تربطه مع جماعة الإخوان السورية علاقات طيبة، وتمثل الأشعرية والصوفية أبرز مدارسه الدينية الفكرية.

وبالرغم من هذا التحوّل والانفتاح البطيئين، فإن الهيئة تؤكد حضورها شديد الوطأة على الحريات الاجتماعية، بين الحين والآخر، ملوحة بعصا منهجها “السلفي الجهادي” المتشدد، وهذا يرجّح أن الهيئة تلجأ إلى هذه السياسة لشدّ عصب ارتباط منتسبيها المنتمين عقائديًا إلى صفوفها، وعدم خسارتهم لصالح تنظيمات سلفية جهادية أخرى.

وفي الوقت الذي استفادت فيه الهيئة من ظروف منع التجمعات التي أفرزتها أزمة جائحة فيروس كورونا، وأدّت إلى محدودية الاحتجاجات ضدها خلال هذه الفترة، أظهرت تكتيكات الهيئة على الصعيد الأمني استفادتها من دروس قمع التظاهرات التي انتهجها النظام السوري، فامتنعت في معظم الحالات عن مواجهة التظاهرات بشكل مباشر، ولجأت إلى سياسة تشتيتها، قبل تحركها أو بعد خروجها، بالاعتماد على طرق عدة، أبرزها:

  1. الاستفادة من المعلومات الاستخباراتية التي تحصل عليها من أجهزتها الأمنية، والقيام بحملات اعتقال قبل التظاهرة تشمل المنظمين والفاعلين فيها، وبهذه الطريقة تضمن فشل التظاهرة.
  2. ملاحقة المتظاهرين بعد انقضاء التظاهرة، لضمان عدم مشاركتهم في تظاهرات أخرى.
  3. اختراق صفوف المتظاهرين ومحاولة تشتيت آرائهم وأفشال تحركاتهم.
  4. تنظيم وقفات ذات صبغة مدنية، بالتزامن مع التظاهرات المناوئة للهيئة، لتشتيت الرأي العام.
  5. الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، وإنشاء حسابات وهمية مناصرة للهيئة تقوم بترويج وتبرير أفعالها، واختراق حسابات الناشطين وابتزازهم من أجل ضمان عدم مشاركتهم أو دعمهم للاحتجاجات.
  6. إرهاب الناس بالإخفاء القسري للمعتقلين من دون محاكمات علنية أو إمكانية معرفة أماكن اعتقالهم.
  7. تسريب قصص تعذيب الموقوفين داخل معتقلات الهيئة، لترهيب الناس ودفعهم إلى الامتناع عن المشاركة في أي احتجاج معتمدين سياسة نظام الأسد الإجرامية.
  8. اتباع سياسات تقريب بعض الوجهاء المحليين من قيادة الهيئة، واستمالتهم عبر منحهم سلطات إدارة مناطقهم، مقابل الولاء والإسهام في احتواء أفراد مجتمعاتهم.

خاتمة

لا تبدو إستراتيجية هيئة تحرير الشام الحالية، في التعامل المرن مع التحديات الداخلية والخارجية، تغيرًا منهجيًا في سلوكها القمعي التسلطي الذي تأصلت عليه، فهو بالمحصلة حلقة من سلسلة حلقات متماسكة دأب عليها هذا التنظيم، منذ ظهوره في سورية، وخلال وجوده كفرع لتنظيم القاعدة قبل انفصاله عن “تنظيم الدولة الإسلامية”، حتى إعلان نفسه كفصيل مستقلّ باسم “هيئة تحرير الشام” ذات البعد المحلي، والتخلّص من العناصر الأجنبية والمتشددة فيه، والتحول العسكري عن التكتيكات الجهادية للتنظيمات الإسلامية عبر المفخخات البشرية، والتوسع باتجاه البعد السياسي المحلي والإداري السلطوي والاقتصادي المسيطر، واحتكار موارد ومقدرات المنطقة، وتغليب مصلحة الجماعة على مصلحة البلد، وكل هذا يؤكد استمرار الهيئة في سياستها التسلطية، وبالمقابل ينذر بتصاعد أكبر للاحتجاجات ضد الهيئة، مع مرور الوقت وتزايد التحديات.

وتؤكد الظروف والواقع أن حركة الاحتجاجات الشعبية تتوفر لها، بوجود الهيئة واستمرار ممارساتها العنفية والقهرية، كلّ أسباب الاستمرار، وأن محاولات مجابهتها والوقوف أمامها لن تجدي نفعًا على المدى البعيد، ويُخشى من تحول الاحتجاجات إلى أشكال مواجهة عنفية خطرة للغاية، وهو ما يستدعي من قوى المعارضة السياسية والثورية، والقيادات المحلية، بذل ما يمكن من جهود، لمواجهة هذا التنظيم بوعي وفاعلية، عبر حراك يستوعب خطورته ومخاطر استمراره كسلطة أمر واقع بالإكراه، تأخذ المدنيين رهائن في خضم صراعها من أجل السلطة.


([1]) أسست “هيئة تحرير الشام” في 28 كانون الثاني/ يناير 2017 من اندماج فصائل جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا)، وحركة نور الدين زنكي، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنة، ولواء الحق، قبل أن تنضم إلى الهيئة فصائل أخرى في وقت لاحق.

([2]) رأي حرية: “تحرير الشام”.. شريك أستانة غير المعلن – موقع حرية برس – 8  يناير 2019 – https://bit.ly/39UUERX

([3]) واشنطن تستبعد إزالة “تحرير الشام” عن قائمة الإرهاب – موقع عنب بلدي – 4/1/2021 – http://bit.ly/3jnx9nA

([4]) سوريا: “هيئة تحرير الشام” تمارس الاعتقال والتعذيب – خطوة لترسيخ السيطرة وإسكات المعارضين – تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش – كانون الثاني/ يناير 2019 – http://bit.ly/3aATM3Y

الكاتب

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *