* عمر إدلبي
كنا متأكدين ونحن نحضر أنفسنا لانطلاق أولى مظاهرات ثورتنا أن الحراك الثوري في الميادين والشوارع سيكون مكشوفاً لآلة القمع الأسدية ما لم نتمكن من تظهير وقائع ثورتنا وقمعها المتوقع للعالم، لعل وعسى تكون الصورة خط الدفاع الأول عن الناشطين الذين لا قِبَل لهم مهما فعلوا بحماية أنفسهم من بطش منفلت سيواجهونه لا محالة.
وهذا ما كان، فالقمع المتوقع المتخيل كان دون مستوى ما وجهناه بأشواط.. كنا طرائد سهلة الصيد لرصاص القناصة بداية، ولقذائف الهاون العشوائية لاحقاً، وللمدافع والطائرات وللكيماوي والبراميل المتفجرة والتغييب القسري والقتل تحت التعذيب وبالتجويع في غياهب سجون العصابة المسماة زوراً وبهتاناً (النظام) .. كأنما نحن في لعبة من ألعاب الفيديو التي لا تخطر مخاطرها وشراستها في بال مخلوق.
كان لا بد من أن نصنع إعلامنا بأنفسنا ، ما دام إعلام “الدولة” مختطفاً من أجهزة النظام، وما دامت وسائل الإعلام العربية والعالمية لا تعير بالاً للدم مهما كان غزيراً إلا حينما يسقط في موقع تهتم لأمر أهله، لا لأمر نظامه، وكانت شكوكنا كبيرة على هذا الصعيد.
توقعناها معركة إعلامية بكل معنى الكلمة، وكانت كذلك في أولى مراحل الثورة، حيث لا بد لنا من فتح نوافذ محسوب لها بدقة في جدران الإعلام العالمي والعربي، وليس كل الإعلام العربي صديقاً، فمعظمه إعلام أنظمة، أو تيارات ومحاور، لا إعلام شعوب.
ولعل الكثير منا خدعته تغطية الإعلام العربي والعالمي لثورات الربيع العربي في الأقطار العربية التي سبقتنا للاستحقاق، فظن الخير وهو واهم، وفي كل الأحوال لا يمكن قياس الساحات على بعضها، فما يميز الساحة السورية في مجال الإعلام عن غيرها من دول الربيع العربي أمر بالغ التعقيد وصعب فهمه على غير السوريين الذين يعانون من إعلامهم على مدار عقود ما يعانونه من رجال الأمن، حيث في سوريا، لا إعلام إلا إعلام المخابرات، ولا مراسلي إعلام أجنبي إلا من يظفر برضا أجهزة المخابرات، المخابرات التي يزيد عدد أفرعها عن عدد جامعات سوريا ومعاهدها التعليمية، وربما عن عدد مستشفياتها أيضاً، ويفوق عدد عناصرها أعداد طلاب المدارس.
توجهنا صوب الإعلام البديل، إعلام وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يمكننا الإفلات إلى حين من رقابة الأجهزة، أسسنا شبكات إعلام متنوعة من المكتوب بداية، إلى المسموع والمرئي لاحقاً وكلها كانت خطوات لأصواتنا إلى منصات الإعلام الجديد.
نجحنا مرات .. وأخفقنا كثيراً، أربكنا نظام الأسد وإعلامه، وحاصرناه بالحقائق الدامغة الدالة على بطشه وإجرامه، فارتبك، وارتكب أخطاء أنزلته من دركه الأسفل أصلاً إلى مرتبة أدنى وأذل، وفعلنا في بعض الأحيان ما فعله، فارتكبنا هفوات، وخطايا أيضاً، ولم يتح لنا وقت للاعتذار، وإصلاح ما أفسدناه، فوقتنا من دم، وعملنا كإعلاميين يحتاج من فدائييه قدرات على الصبر والمثابرة وتحمل المخاطر تكاد تكون أسطورية، ونحن بشر!
ولأن معظمنا مواطنون لا إعلاميين، طالبتنا الثورة بأن نكون إعلاميين، فامتثلنا، ومضينا نجرب كل ما يتاح لنا من أدوات إعلامية تساند حقنا، وتكشف إجرام قاتلنا، وهذا النوع من الإعلام الهاوي يصعب عليه إنضاج خطاب متسق مع أهدافه، كما فشل في تأسيس خطاب يجيد التعامل مع الرأي العام العالمي، خاصة عندما أفضى قمع قوات الأسد الوحشي إلى ظهور المقاومة المسلحة.
لم يترك قمع النظام الدموي للحراك الشعبي فرصة ليبقى سلمياً، فبعد أشهر من القمع المسلّح وسقوط آلاف الشهداء، وتحديداً بعد الاقتحام الدموي لمدينة حماه التي شهدت أبلغ صور التعبير عن سلمية الثورة، هذا الاقتحام الذي حصل في الساعات الأولى من اليوم الأول من رمضان في العام 2011، تعالت بعده مباشرة الدعوات الشعبية لتجاوز السلمية والرد المسلح على قوات النظام وميليشياته المدنية من الشبيحة، وبدأت المقاومة المسلحة تظهر بشكل أكبر، وبدأ خطابنا وأداؤنا الإعلامي بالارتباك أكثر، وكنا نخجل من الإعلان عن استعمال ثوارنا الحق المشروع بالدفاع عن أنفسهم وعنا، وعن أهلنا وأعراضنا وبيوتنا من الانتهاكات الهمجية التي طوت البشرية صفحات مثيلاتها منذ القرون الوسطى.
الآن وقد مض أكثر من 5 سنين بكامل وحشيتها على أهلنا، أجدني أخجل من خجلي من مقاومة ثورتنا المسلحة، يوم كنت أتهرب من الاعتراف بأن المقاومة الشعبية لنظام مستبد مجرم يرتكب إبادة بحق الشعب، هي فعل شريف مقدر، وفاعله المنضبط بأخلاق المقاومة يستحق التقدير والعرفان له بالفضل.
بالمحصلة، تأثر إعلامنا بمجريات الثورة المسلحة، وسار متتبعاً خطواتها، ونسي مهمته الأخرى، قصص الناس، الناس الذين لا يعرفون من السلاح إلا الاكتواء بناره والسقوط صرعى وحشيته، نسينا توثيق الدموع، رغم أن الدم فاض غزيراً فأضاع فرصة الدموع في التأثير بوجدان المشاهدين، إلا أن للدموع قدسية لا تُطال قممُ صدقها.
حيرتنا مآسي ثورتنا، أي الطرق نسلك لتأدية واجبنا كإعلاميين معها؟
هل نخاطب العقول بما يجعلها قادرة على إدارة تفاعلها مع قضيتنا؟ أم نتجه إلى وجدان العالم بما يحرك فيه دوافع العمل لإنهاء مقتلة أهلنا؟
يقول قائل: الاثنان معاً.
ونقول … والله لم نترك أداة ولا أسلوب بيان ولا نمط تأثير في ذائقة تلقي المآسي عند البشر إلا وجربناها .. وأطلنا .. وفصلنا … ولم يكن معنا إلا الله .. ومن هو مثلنا مؤمن بحرية الإنسان وقدسية كرامته ووجوده وأحلامه بالعدالة والمساواة.
في منتصف شهر حزيران يونيو من العام 2011، كنت مع الثوار في حي الخالدية في حمص، المحتل حالياً من قوات الأسد، وميليشيات إيران في سوريا.
في تلك الأثناء بدأ حصار أحياء حمص القديمة، وبدأ القصف يتصاعد بشكل جنوني على منازل المدنيين بشكل متعمد.
و رفقة مجموعة من الثوار كنت أنتقل من شارع إلى آخر، سقطت قذيفة هاون على منزل سكني أمام عيني، تعالى الصراخ الممزوج بالصدمة من داخل المنزل، أصوات بكاء أطفال مرير، وصراخ رجال صعقتهم المفاجأة، المتوقعة في كل وقت، وعويل مخنوق لنساء يشق القلب نصفين .. بل أنصافاً لا عدد لها، هرعنا لإنقاذهم، والكاميرا في يدي، كان عدد المصابين كبيراً، كنت أحمل الكاميرا، ولا أصور، فإنقاذ المصابين والعالقين تحت الركام هو ما كان يشغلني.
كنت أرفع الركام عن جسد طفل في الخامسة من عمره تقريباً، وتعيقني عن الحركة بحرية الكاميرا التي علقتها على كتفي، رميتها على الأرض بعصبية، وتابعت محاولاتي اليائسة لرفع الركام الثقيل، ناداني صوت من ورائي: “استاذ .. لا ترم الكاميرا على الأرض، اعطني الكاميرا.. أنا أصور، لازم نصور حتى يشوف العالم كيف بشار يقتل مدنيين وأطفال”.
كان الصوت للجد، رجل سبعيني، لا تظهر ملامح وجهه من الغبار الذي يغطيه كله، والدم المختلط بالغبار على وجهه يرسم لوحة لا تشبه شيئاً عرفته في حياتي، بل تشبه، إنها تشبه القهر والعجز الذي قتلنا مرات ونحن أحياء.
الآن أتذكر تلك اللوحة على وجهه، كانت التعبير الأكثر فجاجة للتناقض المؤلم بين أن تكون أداة توثيق حدث، وأن تعيشه ويدميك!