* عمر إدلبي
فاجأت مظاهرات يوم 15 آذار في العام 2011 أجهزة أمن نظام الأسد، كما فاجأتنا إرادة المتظاهرين، فالمظاهرة التي انطلقنا بها من أمام الباب الغربي للجامع الأموي الكبير لم تكن الوحيدة يومها، حيث جابت مظاهرة أكبر عدداً من حيث المشاركين شوارع الحميدية وأزقتها الفرعية وصولاً إلى ساحة الحريقة، شارك بها عشرات الناشطين من مجموعات تنسيق لم نكن على تواصل معها رغم أنني أعرف عدداً من ناشطيها بشكل شخصي.
كان الناشط الدمشقي عمر شميس – ابن المعارض والناشط الإسلامي المعروف أحمد فؤاد شميس – يقوم بتصوير المظاهرة بكل جرأة، (اعتقل عمر لاحقاً أثناء تصويره مظاهرة بمنطقة الشعلان في دمشق نهاية العام 2011)، وكانت فرصة هذه المظاهرة أكبر من فرصتنا للمسير مسافة وزمناً أطول قبل أن تهاجمها قوات الأمن على دفعتين.
في الهجوم الأول لقوات الأمن جرى تفريق معظم الناشطين واعتقال الناشطة مروة الغميان، وشخصاً آخر عرفت لاحقاً أنه الناشط سامي دريد من أبناء حي القدم الدمشقي، وعلى الفور اقتادتهما قوات الأمن وسط صراخ شجاع من مروة كانت تحرص من خلاله على لفت انتباه كل من كان متواجداً في الشارع.
تابعنا أنا وعمر سليمان ملاحقة فلول المتظاهرين الذين أعادوا تجميع عدد منهم ودخول ساحة الحريقة من الجهة الجنوبية، حيث يقع قسم شرطة الحريقة، وعلى الفور عاود عناصر الأمن هجومهم على المتظاهرين وتفريقهم وتمكنوا من اعتقال الناشط الصحفي صبر درويش ابن مدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة، ونجل المعارض والمعتقل السابق المعروف علي صبر درويش، رحمه الله.
اقتاد عناصر الأمن الناشط صبر درويش إلى أحد محلات بيع الألبسة في ساحة الحريقة، ووضعوا حراسة على باب المحل، حاولت الاقتراب ودخول المحل، فمنعني عناصر الشرطة، ولمحت صبر داخل المحل يجلس على كرسي بهدوء مدهش وابتسامة مستفزة لعناصر الأمن، كان يبدو منتصراً ومنتشياً بالحرية، قبل أن يقتادوه لاحقاً إلى أحد فروع الأمن، ليدفع باهظاً ثمن جرأته على الهتاف أملاً بحرية وكرامة بلاده وشعبه.
انتشر عناصر الأمن بكثافة في كل مكان، وشنوا عمليات تفتيش في أجهزة الجوالات المحمولة لكل من كان متواجداً في الساحة، بعد إغلاق مداخلها الثلاثة، كانوا يبحثون برعب ظاهر عن أي صورة أو مقطع فيديو جرى تصويره للمظاهرة، وما هي إلا دقائق حتى بدت الساحة خاوية من الناس، وبدأ بعض التجار بإغلاق محلاتهم، وغادرت الساحة برفقة عمر سليمان.
كان علينا أن نطمئن على أصدقائنا الذين فقدنا التواصل معهم بسبب توقف أجهزة المحمول لديهم أو مصادرتها، فمضينا إلى مقهى الكمال في شارع 29 أيار وسط دمشق، حيث كان يفترض أن نتجمع هناك، ولم يكن هناك إلا الشاعر والناشط محمد ديبو.
في الطريق إلى المقهى تعمدنا المرور من ساحة المرجة لاستطلاع الوضع، كانت قوات الأمن تنتشر بكثافة، وصادفنا هناكك المعارضين القياديين في حزب العمل الشيوعي عبد العزيز الخير المعتقل حالياً، وبسام سفر، كانت سعادتهما ومفاجأتهما كبيرتين عندما أخبرناهما أن مظاهرة 15 آذار الموعودة حصلت!
سوء تنظيم لا نحسد عليه، وفوضى في التنسيق والتواصل بين نشطائنا، وخيبة أمل من نشطاء توقعنا الوفاء بوعودهم ومشاركتهم في انطلاق مظاهرات ثورتنا، وصدمة كبرى جراء عدم تواجد ولا حتى قيادي واحد من المعارضين المعروفين في المظاهرات، رغم أن قلة منهم كانوا يتصلون ويسألون عن تفاصيل تحركاتنا الميدانية، بعضهم للاطمئنان علينا حقاً، وآخرون لتسجيل موقف “منافق” بأنهم يدعمون حراكنا.
ولكن في المقابل: أسقطنا حاجز الخوف، وهتفنا في الشارع للحرية، وسمع الناس وخفقت قلوبهم لما كانوا يظنون أنهم لنن يسمعوه في سوريا أبداً.
هكذا قيّمنا الخطوة الأولى من الألف ميل في ثورتنا، وكان علينا أن ننتظر ردات الفعل عليها من قبل أطراف كثيرة، في مقدمتها وأخطرها نظام الأسد، ثم تجمعات المعارضة، والشخصيات الوطنية المستقلة، والمنظمات والمجتمع الدولي، ووسائل الإعلام، وقبل كل هذه الجهات والأطراف، كنا ننتظر انتشار خبر المظاهرة في الأوساط الشعبية، لنعرف أثرها على الشعب الذي من أجل كرامته خاطر صبايا وشباب 15 آذار بمستقبلهم وحياتهم.
بقي عمر سليمان في دمشق ليشارك في اليوم التالي (16 آذار) في اعتصام أمام وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي، بينما غادرت إلى حمص مساء وبقيت طيلة الطريق أسترجع تفاصيل ما حصل في ذلك اليوم العاصف، وأنا أعيش حالة مركبة ومعقدة من المشاعر، تتناوب علي دون استئذان أحاسيس مدهشة، ابتسم نشوة وسعادة وأبكي وتخنقني الغصة.. في آن، وأقول في نفسي متسائلاً: لعلها أعراض الحرية!
وصلت إلى حمص لأجد أبو جعفر المغربل و”عبد الكريم ص” ينتظراني بقلق، وأخبراني أن أخبار المظاهرة بدأت تنتشر بين الناس وتلقى صدى إيجابيا، وأن السيدة سهير الأتاسي تحدثت عن المظاهرة عبر قناة الجزيرة التي غطت الخبر بتقرير مدته حوالي 4 دقائق تكرر عرضه على شاشة الجزيرة أكثر من مرة، عندئذ شعرت بالاطمئنان أن خبر انطلاق الثورة نال حقه على الشاشة الإخبارية الأكثر متابعة في السوريين.
نامت عيون الناس وبقيت أتابع كل ما ورد عن انطلاقة الصورة السورية في الصحافة ووسائل الإعلام العربية والعالمية، حتى لو كان خبراً ببضع كلمات، جمعت في ملف خاص كل ما تناوله الإعلام عن شرارة الثورة السورية في 15 آذار 2011 وبقيت لمدة شهر تقريباً أضيف كل معلومة أو إشارة إعلامية ولو عابرة إلى هذا الملف، الذي فقدته لاحقاً أثناء ملاحقة أجهزة الأمن لي اعتباراً من منتصف نيسان/ابريل 2011.
مع اقتراب موعد اعتصام يوم الأربعاء 16 آذار ازداد القلق والخوف من تعامل عنفي سيلجأ إليه النظام في مواجهة الناشطين وأفراد عائلات معتقلي الرأي الذين ينوون الاعتصام عند الظهر أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة، للطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي والضمير، وكان عدد منهم قد أعلن قبل أيام اضراباً مفتوحاً عن الطعام.
البعض كان يعتقد أن الاعتصام يحظى بحصانة معنوية باعتبار أن عدداً من المثقفين والمفكرين الكبار سيحضرونه، مثل المفكر الدكتور الطيب تيزيني، إلا أن التعامل الأمني مع الاعتصام كان يعبر عن حقيقة نظام الأسد، الذي لم يحترم يوماً أي رمز وطني مهما علت قيمته.
دقائق فقط مضت على اعتصام صامت لأكثر من مائتي ناشط وشخص من عائلات المعتقلين أمام وزارة الداخلية في ساحة المرجة بدمشق، لينقض بعدها عناصر الأمن بشكل همجي على المعتصمين السلميين ويبدأ الضرب والتنكيل أمام مرأى الناس المتواجدين في الساحة بالشباب والصبايا وحتى الأطفال الذين حضروا مع ذويهم، وتمكن قطيع عناصر أجهزة الأمن من الانتصار على المعتصمين السلميين واعتقال أكثر من ثلاثين منهم، بينهم الدكتور الطيب تيزيني ومازن درويش وسهير الأتاسي وكمال شيخو والمحامية سيرين خوري وناهد بدوية وميمونة معمار، وعامر داوود وطفليه، وآخرين وثقت أسماءهم جهات حقوقية كثيرة.
تعامل النظام الهمجي مع الاعتصام أظهر بوضوح أنه غير قادر على استيعاب وتقبّل أي حراك احتجاجي ذي طابع شعبي، وأن القادم من تعامله العنفي مع أنشطة الثورة أعظم وأمرّ، خاصة أن يوم 18 آذار “جمعة الكرامة” قادم.
… يتبع