بعد 22 عاماً من تعطيل 3 رؤساء أمريكيين تنفيذ قرار الكونغرس الأمريكي الصادر في العام 1995 والقاضي بنقل سفارة واشنطن لدى الكيان الصهيوني من تل أبيب إلى القدس، أتى ترامب ليشعل فتيل قنبلة نقل السفارة، ضارباً عرض الحائط بكل التحذيرات الدولية والعربية “الخجولة جداً” من خطورة هذه الخطوة على مستقبل عملية السلام بين العرب والصهاينة وعلى المنطقة برمتها.
ترامب أطلق وعده رسمياً بنقل السفارة في خطاب شهير له أمام لجنة الشؤون العامة الاميركية في اسرائيل في آذار / مارس 2016، واصفاً القدس بأنها “العاصمة الأبدية للشعب اليهودي”، ولم يكن أحد يتوقع أن الرجل الآتي إلى السياسة من عالم المال والاقتصاد والسعي وراء الصفقات الرابحة سيقدم على تنفيذ هذه الخطوة التي تحتمل الكثير من الخسارات “في ألف باء علم السياسة الدولية”، ولكن ترامب فعلها، وبالتأكيد ليس قبل أن يحسب حساب نتائج فعلته.
قضية السيادة على القدس ليست مسألة عابرة، ولا مجرد أمر ثانوي في سيرة الصراع العربي الفلسطيني مع الكيان الصهيوني المحتل، وظلت على الدوام عقدة العقد في محاولات إيجاد حل سياسي لهذا الصراع، وأولى هذه المحاولات ظهرت في العام 1947 من خلال خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين، وهي الخطة التي اعتبرت القدس “مدينة دولية مستقلة”.
وآنذاك.. لا العرب قبلوا هذه الخطة، ولا الصهاينة، وفي حين فشل العرب في حرب العام 1948 في استعادة ما خسروه من فلسطين لصالح العصابات الصهيونية، تمكن الصهاينة بعد انتهاء القتال في العام 1949من السيطرة على النصف الغربي من القدس، وبقي القسم الشرقي الذي يضم مدينة القدس القديمة ومعظم أوابدها التاريخية تحت سيطرة القوات الأردنية.
وفي العام 1967 سيطر الصهاينة خلال حرب حزيران على القسم الشرقي، لتصبح القدس كلها تحت الاحتلال الذي أعلن قادته في العام 1980 “قانون القدس”، الذي ينص على ضم المدينة رسمياً وتسميتها عاصمة لدولة “إسرائيل”.
مجلس الأمن وعبر الكثير من قراراته التي صوتت الولايات المتحدة بالموافقة عليها، أكد مراراً وتكراراً على أن كل إجراء تقوم به دولة الاحتلال بهدف تغيير الوضع القانوني للقدس باطل بموجب القانون الدولي، ومنها قرار مجلس الأمن242 لعام 1967 الذي طالب القوات “الإسرائيلية” بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران، وقرار مجلس الأمن 252 الصادر في العام 1968 الذي يعتبر جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية، وجميع الأعمال التي قامت بها “إسرائيل”، بما في ذلك مصادرة الأراضي والأملاك التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في الوضع القانوني للقدس هي إجراءات باطلة، ولا يمكن أن تغير في وضع القدس، وتوالت بعدها القرارات الأممية التي تتعلق بالقدس، ومنها القرار رقم 271 الصادر في العام 1969عقب إحراق الصهاينة المسجد الأقصى، والقرار رقم 298 في العام 1971، والقرار 446 في العام 1979، والقرار 478 في العام 1980، الذي أدان “قانون القدس” لعام 1980 الذي أعلنت “إسرائيل” من خلاله أن القدس هي عاصمة إسرائيل “الكاملة والموحدة”، باعتباره انتهاكاً للقانون الدولي، وصولاً إلى القرار 2334 الصادر عن مجلس الأمن في العام الماضي 2016 الذي يدين وينزع الشرعية القانونية عن كافة الإجراءات الصهيونية الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، ويؤكد على عدم الاعتراف بأي تغيرات في حدود الرابع من حزيران 1967.
وفق جميع هذه القرارات، وغيرها الكثير، لا تعترف الولايات المتحدة بسيادة دولة الاحتلال على القدس، ولكن.. في العام 1995، أصدر الكونغرس الأمريكي قانوناً يلزم السلطة التنفيذية الأمريكية بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة “إسرائيل” ونقل سفارة واشنطن إلى القدس في موعد أقصاه 31 مايو/ أيار 1999، وينص البند 3 (ب) من القانون على فرض تخفيضات في الأموال المخصصة لوزارة الخارجية الأمريكية في حال عدم افتتاح سفارة في القدس.
وآنذاك هدد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون باستخدام الفيتو على القرار، ما دفع الكونغرس لمنح الرئيس سلطة تعليق تنفيذ القرار لمدة 6 أشهر إذا وجد أن ذلك التعليق ضروري لحماية المصالح الأمنية الوطنية للولايات المتحدة، وبالفعل استخدم كلينتون ومن بعده جورج بوش وباراك أوباما هذا الحق بشكل مستمر وعلقوا تنفيذ القرار بشكل متواصل كل 6 أشهر، إلى أن وقع دونالد ترامب يوم الأربعاء الماضي قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
قرار ترامب يؤكد أن القلق الذي ساور 3 رؤساء أمريكيين سابقين له على مصالح الأمن القومي الأمريكي من تنفيذ خطوة نقل السفارة إلى القدس لم يعد له مبرر، ويبدو الرجل مطمئناً إلى أن شيئاً سيئاً لن يحدث، وفي أسوأ الحالات أن السوء المتوقع ليس بذي بال، فلماذا يبدو ترامب مطمئناً؟
أسباب ترامب الدافعة لهذه الخطوة متنوعة وكثيرة، وأولها دون أدنى شك رغبته في استعادة شيء من شعبيته المنهارة، عبر التأكيد لناخبيه، وخاصة في أوساط المحافظين، ومعظمهم من الداعمين الأشداء للصهاينة، أن وعوده الانتخابية ليست للنسيان، وعلى هذا الصعيد حقق ترامب نجاحين مهمين خلال أسبوع واحد، حيث أحرز الرجل نصراً كبيراً في تنفيذ وعد انتخابي شهير ومثير للجدل، من خلال قرار المحكمة العليا الأميركية الذي صدر الأربعاء الماضي والقاضي بتنفيذ قرار ترامب بحظر السفر إلى الولايات المتحدة على رعايا ستة دول مسلمة، ما دفع ترامب للاطمئنان بعد سلسلة صراعات قانونية وحقوقية نازعته في قراره، وسارع ترامب إلى تنفيذ وعده الآخر الأكثر جدلاً بنقل السفارة في نفس اليوم، ليقول لناخبيه إنه يفي بوعوده.
هذا على الصعيد الداخلي الأمريكي، أما على صعيد القلق من تضرر علاقات واشنطن مع حلفائها العرب من نقل السفارة إلى القدس، فيبدو الرجل أكثر اطمئناناً، فالدول الكبرى في المنطقة غارقة في مشاكلها الداخلية، وصراعاتها البينية.
في مصر ينهمك نظام العسكر بتثبيت سلطته، ورئيسها لم يفرغ بعد من التخلص من تبعات انقلابه وحملته الدموية على معارضيه، وعينه شاخصة على فترة رئاسية جديدة، ربما تقوده إلى حكم مصر عشرات السنين.
وفي السعودية تحشد كل الطاقات لتمهيد الطريق لولي العهد نحو عرش المملكة، وأجواء القلق والإرباك والتخبط على جميع الأصعدة واقع لا يستطيع إنكاره أحد، كما لا تخفى أثاره على مختلف جوانب الحياة داخل المملكة، التي تخوض حرباً في اليمن بلا أفق لنهاية مرضية لخططها التي هي الأخرى بلا محددات واضحة، وتواصل حملة الإضرار بدورها “الأبوي” في مجلس التعاون الخليجي، عبر التصلب في مواقفها تجاه مبادرات حل الأزمة مع قطر.
وسوريا، والعراق، وليبيا باتت جغرافيا سائبة ترتع وتتحكم فيها المليشيات وقوات من دول شتى تحتلها على مرأى العالم وسمعه، في حين يبدو الأردن عاجزاً عن إقناع ترامب ونتنياهو بمخاطر انفجار شعبي فلسطيني غاضب، وعاجزاً عن الدفاع عن مصالحه، حتى الصغيرة منها، ولا يملك سوى التنديد باعتراف واشنطن بنزع وصايته “الإسمية” عن القدس.
أما سلطة الوهم في رام الله، فلا أحد يتوقع من “الرئيس” محمود عباس أكثر من خطاب ممل، يتحايل فيه على الألفاظ كي لا ينزلق إلى مضمون يفهم منه أنه تهديد بوقف التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، كل هذا يحصل وسجون السلطة تغص بالشباب الفلسطينيين الأحرار الذين لا يخشى الصهاينة أحداً سواهم، ولا ينتظر أحد من حماس والفصائل المسلحة الأخرى في غزة فعل شيء ذي جدوى، فهي تعيش أسوأ حالاتها بعد أن تمكن منها الحصار والتخلي، وبعد أن غرقت في مستنقع التحول من قوى مقاومة إلى سلطة أمر واقع، ما دفعها لحلف ملتبس مع مخابرات نظام السيسي ورجل فتح المنشق، المشبوه “دحلان”، وتجديد حلفها القديم مع دولة “الولي الفقيه” في إيران، رغم كل جرائم مليشياتها الطائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأكثر ما يتوقع منها بضع خطابات تشبه خطابات خامنئي وحسن نصر الله في “يوم القدس”!
الواقع يقول أن أنظمة المنطقة العربية مشغولة للغاية بتفحص أضرار ثورات الربيع العربي ومكافحة ما علق من آثارها في وعي شعوبها، وتشويه كل صورة جميلة لفترة قصيرة للغاية عاشتها هذه الشعوب حالمة بحريتها وكرامتها، وقتل أي فرصة لبقاء واستمرار جذوة الثورة “المترنحة” في سوريا، آخر بلدان الثورات الصابرة على نكبتها، وملاحقة كل صوت ثائر حر، والعمل بكل شراسة لتمكين قوى الثورة المضادة في بلدان الربيع العربي الأخرى، وليس في قائمة اهتمام هذه الأنظمة وجود لأي بند يتعلق بقضية العرب الكبرى الأساسية، قضية فلسطين، وهذا واقع لم تخطئه عين ترامب ومستشاريه، ولهذا يبدو مطمئناً لقراره، ويمضي في تنفيذه دون أدنى شعور بالخطر، ولسان حاله يقول: من أمن العقوبة أساء الأدب ونقل السفارة!