هل يمكن موضوعياً الحديث عن «أدب كردي باللغة العربية»؟
ألا يبدو الأمر كما لو أنه خلط في مفهوم هوية الأدب؟
الإجابة عن كلا السؤالين، تبدو محض تنظير، نتركها لذوي الاختصاص، ونذهب مذهباً يهتم بإضاءة خاطفة على منجز شعري قدمه شعراء كرد بغير لغتهم الأم، وبالتحديد باللغة العربية، هذه اللغة التي شكلت عبر قرون عديدة مشتركاً أدبياً وثقافياً وحضارياً لأقوام وأعراق وشعوب جمعها الكثير، وفرقتها يد الاستبداد فقط.
أن يكتب كردي شعره بالعربية، يعني أولاً وقبل كل شيء أن نصه بالكردية ليس محل ترحيب، إن لم نقل محل إدانة ومصادرة أصلاً، وفي حال كهذه يغدو مفهوماً توجهُ الشعراء الأكراد في سورية والعراق باتجاه الخيار الوحيد المتبقي لصياغة هواجسهم وأسئلتهم وقلقهم وأحلامهم بأدوات الشعر العربي. ولا يغيب عن البال أن الثقافة العربية بتجلياتها المتعددة والمتنوعة، شكلت مرجعية هامة ورئيسية في صياغة وتشكيل المنجز الأدبي والذائقة الثقافية لشعوب منطقتنا، وبالتالي فإن الكتابة بالعربية لم تكن عبئاً ثقيلاً على غير العرب، بقدر ما كانت جواز سفر مكنهم من اختبار آفاق يتجاوز اتساعها رقعة انتشار لغتهم الأم، ونقل أصداء أصواتهم إلى حيث يحلمون.
في سورية، تنبت سنابل الشعر في الشمال وأقصاه الشرقي على صدر شعرائها الكرد، وما إن تمس روحك واحدة منها حتى تنفرط إلى حبات.. وحبات.. وقصائد.
يحلمون، ويبكون، ويفرحون، ويتألمون، ويعشقون.. بالعربية، وبالعربية أيضاً يدونون هزائمهم، كبشرٍ أولاً، وكأكراد أولاً أيضاً، وكسوريين يخشى الاستبداد وطنيتهم، فقط لأنهم قدموا دماءهم مرات عديدة لأجل سورية، وأمام الوطنية الصادقة يرتعد سماسرة الوطن.
لا يمكن لقارئ شعر الكرد بالعربية في سورية، إلا أن يتوقف أمام السيطرة شبه المطلقة لقصيدة النثر على هذا الديوان، وسيتوقف طويلاً أمام خصائص هذه التجربة اللافتة الخاصة، وأزعم أن أحد أبرز هذه الخصائص يتمثل في التشكيل الصوري اللغوي، مع حفظ الفوارق بين تجربة وأخرى.
هذه الظاهرة تحتفي بالوظيفة الشعرية، وتقدمها على حساب الوظيفة الدلالية، على ما في ذلك من مآخذ يسجلها أنصار المعنى في الشعر، فالأعراف اللغوية عند الغالبية العظمى من هؤلاء الشعراء غير ذات أهمية، بل هي محل شغل مقصود على هدمها والانحراف عن نمطيتها، سعياً وراء تأثير جمالي أعمق، يستبطن المعنى، ولكنه يناور بالبوح به.
ولا أجدني أميل -كما فعل بعض أنصار قوانين الطوارئ- إلى تعليل هذه الظاهرة بقصدية التخريب ودك حصون اللغة العربية وقلاعها الشعرية، انطلاقاً من حس ثأري قومي!! إذ يبدو تهافت مثل هذه الادعاءات جلياً، ولا يستحق التوقف عنده.
وكي لا نعود كثيراً إلى الوراء، أعتقد أن البداية بالشاعر سليم بركات -صاحب التأثير الأكبر والأعمق على معظم الشعراء- تمثل برأيي مفتتحاً مناسباً لتأكيد سطوع نجم هذه الظاهرة الجمالية، إذ يعد الشاعر والروائي سليم بركات أحد أهم الأكراد الذين يكتبون باللغة العربية، ويمتاز بمعجم لغوي غني، ينهل من مفردات المكان في الجزيرة السورية، متوسعاً في استخدام المجاز، وله اشتغالاته الخاصة في اللغة، ما منحه خصوصية قلما نجدها عند مجايليه، وشكل بالتالي حالة جذب للكثير من شعراء جيله والأجيال اللاحقة.
وبمرور خاطف على الأسماء الشعرية الكردية التي تكتب بالعربية في سورية نلتقي بالأسماء التالية: ياسر مراد، أحمد حيدر، جانا سعيد، محمد نور الحسيني، جميل داري، معشوق حمزة، حسين بن حمزة، لقمان ديركي، إبراهيم اليوسف، محمد عفيف الحسيني، عبدالرحمن عفيف، عبداللطيف الحسيني، أمير الحسين، خلدون إبراهيم، خلات أحمد، إبراهيم حسو، مروان خورشيد، مروان شيخي، مروان علي، راكان حسو، جولان حاجي، علي جازو، أحمد العباسي، دلدار فلمز.. وغيرهم الكثير.
هذا في مرور خاطف!! وللقارئ أن يفكر ملياً في عدد هؤلاء الشعراء، وسيكتشف بنفسه حجم الحراك الثقافي والشعري -مع إقرارنا بتباين المستويات- الذي يتركه هذا «التيار» لو صح التعبير في الحياة الثقافية السورية!!
الأسماء التي أرغب بالتعريف إليها ولم أذكرها بعد، تمثل جيل التسعينيات في سورية، وأفرد مساحة أبرز لها بحكم فاعلية حضورها وبلوغها مراحل لافتة من النضج والخصوصية، وبسبب انطلاقها كما أزعم من فهم راكز للشعر، باعتباره علاقة تشاكل بين الفن والوعي، يخرج اللغة عن عادي الكلام إلى هالة المعنى، ولا تستسلم للتركيبة الغرائبية المجانية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
{ طه خليل: من شعراء جيل الثمانينيات، صدرت له العديد من المجموعات الشعرية منها: (قبل فوات الأحزان، ملك أعمى، أينما ذهبت)، يتمتع طه خليل بمقدرة على كتابة قصيدة النثر بحساسية تسجيلية، ولا سيما القصائد التي كتبها أثناء إقامته في أوروبا.
{ حسين حبش: صدر له (أعلى من الشهوة وألذ من خاصرة غزال)، يعتمد في كتابة قصيدة النثر على سردية اليوميات التي تقترب أحياناً من السينمائية.
{ لقمان محمود: صدر له (أفراح حزينة، خطوات تستنشق المسافة، دلشاستان)، يعتمد شعره على التضاد والمفارقات في بناء الصورة الشعرية، المبتعدة عن التغريب المفتعل والمبالغ فيه.
{ منير خلف: من إصداراته الشعرية (سقوط آخر الأنهار، لمن تأخذون البلاد، جنازة الإرث..)، ويتميز شعر منير خلف -خاصة في قصائد التفعيلة- بالسردية، وبالقوافي الساكنة، وبالتدوير، يغرق أحياناً في الذهنية، على عكس شعره العمودي الذي يتمسك أكثر بمغازلة القارئ، بعفوية لافتة.
{ أديب حسن محمد: من إصداراته (موتى من فرط الحياة، ملك العراء، وثامنهم حزنهم، سبّابة تشير إلى العدم).
أحد أبرز شعراء جيله، كتب أشكال الشعر الثلاث وساهم بدراساته النقدية وملفاته الشعرية في سد جزء من الفراغ النقدي تجاه الحركة الشعرية التسعينية في سورية.
{ عارف حمزة: من إصداراته: (حياة مكشوفة للقنص، قدم مبتورة)، يكتب قصيدة النثر بحساسية خاصة، ولا يقع في مطبات الاستسهال والنثرية الجافة، وعيه وحساسيته تجاه اللغة يحيل اليومي الروتيني إلى شعري قابل للاستعادة.
{ عماد الحسن: صدر له: (الذي تأخر، كما لا ينبغي أيضاً، دبلوم في الكرز، تهاويل)، قصيدته ترتكز على السوريالية والغرائبية، وقاموسه مفرط في التغريب.