قصائد مشــبهة بالفعــل
شعر: عمر إدلبي
* الأرض *
يَودّون لو أنتهي
مثل كلِّ الكلام المباحْ
يودّون لو يتقوَّسُ ظهري،
ويسقط من لغة العمرِ
حرفُ الصّباحْ
يدي جفنُ هذا التّرابِ
الذي سخّنته الهزائمُ
حتى التبخّرِ
ماذا تراني سأفعلُ
حين يعضُّ الخليفةُ ثلجَ أصابعهِ
ويشيحُ انكسارهُ عنّي؟
وماذا سأفعلُ
حين تسيلُ على وجنةِ النازفينَ
الأناشيدُ:
صبراً فموعدُكم جرحُ أرضٍ يبابْ!!؟
إلى من أدحرج غيمي الهزيلَ
لينفخَ فيه جنونَ الهطولِ
وحولي يقيم الخواءُ تماثيلَهُ؟
صدئٌ أيّهذا الخرابْ!!
وقوفاً بمفترق النارِ
أَشهدُ:
رأسٌ وحيدٌ لكلّ الحواةِ
يودُّ لو انّي
أخبّئ آخرَ صوتٍ لديَّ بكفيهِ
كي لا أحاولَ أن أتلمّسَ وجهي الشقيَّ
النبيَّ
وأوقفَ نزفَ جهاتِ السرابْ.
وقوفاً أراني،
استرقتُ قليلاً من الصّحوِ
كي أَشهدَ اليومَ نخلاً
تناهضَ حتى تجمّعَ في ركبتيهِ
على هيئةِ القبرِ
والقبرُ في بحرِ عمري يعومُ.
وأَشهد كيفَ تطوّحني كالحاتُ الحدودِ
لها قرصُ شمسي يدورُ
ولي عورةٌ في مهبِّ العيونِ
تكوّرني،
ثمَ أَصْغُرُ أكثرَ من حبةِ الرملِ
والرملُ قربَ شهيقي يحومُ.
هو النهر منّي
غداة تسرّبَ من غبطةِ الهم سراً
هديلُ بكائي
ومدد دمعي على أفقٍ
يُولمُ الشوكَ،
لا شيءَ غيرُ الجفافِ دمي،
وتُشيعُ القوافلُ:
غارت ملائكةُ الماءِ عند السقوط الأخيرْ.
سآمة وجهي من هجرة الدمعِ
ما من سحابٍ يُقِلْنِي إلى حضرةِ الماءِ
والماءُ شيخٌ جليلٌ
وسُبْحَةُ وِرْدِيَ لمَّا تَزَلْ أبجديتَهُ
كيف صارَ
وصرتُ المريدَ؟
يمدُّ يديهِ
أُقَبِّلُ،
أو أُكتَبَ اليومَ زنديقَ
هذا الزمانِ المريرْ.
فكيف بآلاء هذا الزمان الأجاجِ
أكذّبُ؟
إن خفَّ يومٌ جنينٌ إليَّ
ولم أستزِدْ من أخيهِ الكبيرْ
وكيف بآلاءِ صمتيَ أكفرُ؟
حتى لُعنتُ… حُرقتُ
وذنبيَ إنّي بسرّي عن الغيب للرّيح بحتُ
سآمةُ قلبيَ
من غيمةٍ باتّساع الفضاءِ
تضيق على قطرةٍ تتلألأُ
في عينِ عصفورةٍ في الهجير
يودون لو أنتهي
مثل أسطورة في كتاب صغير
يودون
لكنني ما قبست من الضوء فيَّ
إلى الآن غير فتيلٍ قصير
***
* الشورى *
سابحٌ في الخوفِ
لا ميناء ينجيني
من الموج الذي لا يستريحُ .
لكأنّي مفردٌ
إلا من اسمي
أعزلٌ إلا من الهطلِ الذي يهمي الجريحُ .
لم تَكَدْ كفايَ تقسو
حين سارت في عروقي رعشةٌ
تنبئُ عن عمقِ سؤالي.
كل ما تخفيه عنّي الحجبُ السوداءُ
ألقى بي شقياً
قابَ قوسين وأدنى
من ضلالي.
لكأنَّ الأرضَ قبري،
ويوازيها هوائي المرُّ
حتى لا أرى منّي
ولا مثقالَ شبرٍ
من ظلالي.
أيها الغيبُ لماذا
قلت كن للحزنِ عمري؟
ولماذا أَمرُهُمْ شورى
وما استفتيتُ يوماً ما بأمري؟
ربّما أمحو سطوراً
بعصا الشكِّ
لأشتقَّ من الأسبابِ ما يزكي يقيني.
أيها الغيبُ الذي يسكن في قلبي
أما من آيةٍ
ما مسّها إنسٌ ولا جانٌ
تؤاخيني
لأنجو من ظنوني؟
***
* الدخان *
ولمّا يكن موعدٌ بيننا
كي تغيبي
إلى آخر القطرات بفنجان صبري.
هدوءٌ سحيقٌ
يُشيّع نقرَ أصابعيَ الراجفاتِ
على ركبتيَّ
وقلبي بدا مسرفاً بالطبولِ
يودُّ انحسارَ القميص قليلاً
ليخرجَ عينيه من باب صدري.
تضاءلَ ظلّي
ولم يُبدِ ليلُ انتظاريَ
من خيطكِ اللؤلؤيِّ حضوراً
ليسموَ بالوَرْدِ فجري.
جميعُ الدّروبِ إلى القلبِ تفضي
فما السرُّ كي يتورَّدَ حزني
على عتباتِ خدودي؟
وهذا الضَّياعُ الطويلُ
لمن يكمنُ الآن قربي
ويبدو أشدَّ التباساً من البحرِ؟
هذا الدخانُ السَّديميُّ
يحجبُ عنّي أصابعَ كفي
كأنّيَ في لُجَّةِ الموجِ
في ظلماتٍ بدا بعضُها فوق بعضٍ
فماذا تخبئُ لي يا ظلامُ؟
وهذي القناديلُ
ما زلتُ فيها الفتيلَ
ولم أستطع في كثيف الدخان سطوعاً
فكيف أقولُ: عليكِ السلامُ؟
صدايَ ردايَ،
وبينهما يزحف الوقتُ
كالسلحفاةِ على تلّةِ الرملِ
لكن ظلّيَ لا يستطيلُ
بما لا يحقّ لمثليَ أن يستطيلَ
وئيداً تَثَامَلَ برزخُ بحرينِ
خَالطَ فِيَّ الفراغَ ازدحامُ.
فكيف أُعِدُّ صبايَ
أَعُدُّ خطايَ إلى درب روحي إليك؟
وكيف أقولُ: عليكِ السلامُ؟
فلولا تهزّينَ لغزاً عتيماً
تَنَاوَمَ فوقي،
فترتَدُّ للعينِ أجنحةُ الضوءِ
لولا قرأتِ عليَّ من الآيِ
ما شاءَ للروحِ أن تحتفي بالسماءِ
غداة الدخانِ
فآتيك ماءً معيناً
يقولُ: عليكِ الغمامُ.
***
* الشعراء *
لِمَنِ القصيدةُ تشعل القنديلَ
في أفق تكحّلَ بالمراثي
والعيون الغائرة؟
للزاحفينَ إلى شرود الخمرِ؟
أم لتمائم الأشباحِ
يُخرِجُ سحرَها العبثيَّ
مصباحٌ غفا في الذاكرة؟
للشّعر أخلعُ قبّعاتِ النعي
للبحرِ المعلّق من مساميرِ الخليلِ
وغزوة النّثر الهزيلِ
وما يكابدهُ المغنّي
والحوارُ.
للناي تكسر وزنَها الرعويَّ
حين تطلُّ راقصةٌ،
ويضحك شهريارُ.
لنوافذِ الكلماتِ لا تفضي إذا فُتِحتْ
إلى أسرارها
فكأَنّها الضدانِ يلتبسانِ
أمواهٌ ونارُ.
متوهماً بطيوف موسيقا تراقصُهُ
احتمى قلمي بشالِ الشِّعرِ
كان البردُ يدلقُ من خوابيه
النعاسَ على الغناءْ.
متوهماً قلبي،
تأرجح في العروضِ
ولم يذق في حانة الشعراءِ نخباً
غيرَ ما عَصَرَ الهواءْ.
لا بُدَّ من صمتٍ جليلٍ
كي يَعُدَّ القلبُ من خفقاته الموتى،
ويصغي للسماءْ.
ولنبضهِ أن يستريحَ الآنَ
من عصفِ القوافي
من ضلالِ نبوءةِ الكلماتِ
حتّى يقفلَ الشعراءُ
حانوتَ التفجّعِ والبكاءْ.
لا مرفأً آنستُ في زبدِ الكلامِ
ولا تسابيحاً لحرفٍ إن هوى
من سورةِ الشعراءِ
يُنْهِضُني ويمضي صوبَ سدرةِ نشأتي،
فلأيِّ حادثةٍ
يردُّ النصُّ أسبابَ النزولِ
إذا اليقينُ هو احتمالُ؟
ولمن يعيد الشِّعرُ
ترتيبَ الجهاتِ
إذا الجنوبُ هو الشمالُ؟
للشعرِ أخلع قبّعات النّعي،
للشعراءِ
ما دامت مدائنهم تحاصرها جيوشُ الغيبِ
والــ … ما لا يقالُ.
(ربيع العام 1998)
******