اتركني على نهري
شعر: عمر إدلبي
بالدمع أفتتحُ القصيدةَ
بانهمارِ الحزنِ،
لا أبكي لأنَّ الشِّعرَ مملكتي
وصوتي لا يدلُّ عليَّ،
أبكي من حصارِ الغيبِ،
أكسرهُ
فأبصرني انكسرتُ.
غَسَقٌ من البارودِ
أُخفي في مسامِ الرّوحِ
لكنّي فقدتُ فتيلَ صوتيَ
فانهزمتُ.
لم يَأْفُلِ العمرُ الذي
انسربتْ مناسكُهُ سدى.
ما زالَ يستبقي لفافةَ شَيبهِ
لكهولةِ الأحلامِ
قال النّبضُ لي:
هَيئ سواقي راحتيكَ لرحلةٍ،
تُدْنيك من بَرٍّ شبيهٍ بالقيامةِ
إن عبرتَ جسورَها
تَصل الخلودَ
أو الرّدى.
دعني إلى ضجري
فليسَ لخمرتي- يا نبضُ-
كأسٌ
كي ينادمَها الفِدَا
دعني على ضجري
فكم عُمْرٍ قطعتُ رمالَ موعدِهِ
وكم أخرجتُ حَطّاباً يُطوِّفُ في دمي
لأُعِدَّ كوخاً للسنينِ الباقياتِ
خُذِ الخلودَ
لمن يخافُ النومَ حتّى الموتِ
خُذْ ميراثَكَ العُلويَّ،
واتركني على نهري
يقيمُ حوارَ أحلامي وخيباتي
وصوتي والصدى.
دعني على ظمئي
فقد غابت بعيداً عن يدي
رطبُ الجوابِ،
أكونُ؟
أو لا؟
من يجوسُ حطامَ أسئلتي ليكتبَ:
كان يصعدُ عارياً
جبلَ الحقيقةِ
حينَ آثر موتَه؟
خَلَتِ السّفينةُ بي
وآوي الآن من زبدٍ
إلى رملٍ
وأنمو قربَ ناقوسينِ
يندسّان في كفيَّ
صبّاراً.. وعصفوراً،
أكادُ أجنُّ.. كيف أعيشُ في ضدي؟
ومن سيمدُّ لي كفَّ التّشابهِ
من سيمسحُ لوعتي، ويدلّني:
حقٌّ تأبّطني على شجرِ الصّراطِ
فكنتُ زيتاً في قناديلِ اليقينْ؟
أم باطلٌ
يستعطفُ الشهواتِ في ثلجِ الضّلوع بدمعهِ؟
أم بيْنَ… بينْ؟
من فَرْطِ ما انحنتِ المآذنُ دمعةً
حتى تُعانقَ من تَمدَّدَ في الجهادِ
بثوبِ شاهدةٍ تخامَدَ صوتُها،
من فرطِ ما شقَّتْ لغيبتِهم نداءَ الدَّمعِ
وهي تورِّثُ الفردوسَ
عطراً من دماهمْ،
لن ترى من أسطحِ الجيرانِ
رقصاً للحمامِ
إذا يوازي عرشُها
غيبوبةَ الطّرقاتِ،
هل ينمو بغرَّتِها
أذانُ الفجر بعدَ الآن؟
لا…
للموتِ طبعُ الليلِ يختلسُ المدى
في غفلةٍ من أعينِ الكونِ
المضرَّجِ بالتّعبْ
للموتِ ما خبَّأتُ سِرّاً
من أراجيحٍ تَماهَتْ في غنائيَ
كي أُسرّحَ شعرَها يوماً
إذا النبضاتُ خالجَها الحطبْ.
كم أنتهي خلفَ اهتراءِ أصابعي
حينَ المسافةُ بين أجفاني
وبينيَ
لا تخيطُ سوى جنازةِ من أحِبُّ،
وإنْ أكُنْ
أخَّرتُ إغفاءَ السَّتائرِ
رؤيةً… أو غفلتينْ.
لن تستطيع غوايةُ الإسراءِ
للأحلامِ
أن تَلِجَ المقابرَ شمعةً
لتَرُدَّ من باعوا لعنقودِ الضياءِ فتيلهمْ،
هي خدعةٌ
أنَّ الشُّموس تزفُّ غيمتَهم إلى إشراقنا،
قُلْ: أين تقرأُ قمحَهمْ
في حقلِ شقوتنا اليباسْ؟
هي خدعةٌ
أنّا سنلبسُ طرحةَ العيدِ النديّ
إذا نصومُ عن الخيانةِ،
كذبةٌ،
أن الحقائبَ حين تفتحُ صدرَها
ينثالُ فوق جباهنا
ملكوتُ أورادِ الحنينْ.
محفورةٌ بخطايَ
ذاكرةُ الشّوارعِ،
كم غمرتُ سكونَها بصدى صبايَ
ومشَّطتْ بظلالِها خوفَ الفتى،
كم جئتُها
لتعيدَ ترتيبَ الهواءِ بصدرِ أوردتي
فَأَلْقَتْ
طفلَ أغنيتي ببئرِ التيهِ
آهٍ……
كم حلفتُ بأنَّني
سأزجُّ رأسيَ في غياباتِ السّجودِ
إذا تخلَّفَ عن وداعيَ
ذئبُها!!
كم قلتُ لي أهلونَ أفتتحُ السماءَ بوردِهم
دونَ ابتسامتِها
فدوخَّني الضجرْ!!
وتأخّرتْ عنّي زنودُ الشَّمسِ
ضَلَّ مرافئي سرُّ القمرْ.
فأتيتُ متَّكئاً على دربِ اشتياقيَ
للفوانيسِ التي
غمرت برعشتها برودَ سواحلي
الآن انتهيتُ من احتضاريَ،
جئتُ أقصدُ وجهَها،
متعثِّراً بدمي
وأنيابُ القبائلِ لم تبدِّلْ لونَها،
أرنو إلى المدنِ الشهيدةِ
كي تقاسمَني النساءُ فراشهنَّ
مطرَّزاً بالحزنِ،
لا
لا أنشُدُ الرَّغباتِ
إذْ تَلِدُ المخاطرَ والكرى،
هي بذرةٌ
من رقَّةِ الأثداءِ
أحلمُ أن أضمِّدَ غربتي بحريرِها
لتفوحَ ذاكرتي
بأعنابِ الأمومةِ والقُرى.
فأنا تعبتُ
من المناديلِ الخضيلةِ
ليسَ لي
قلمٌ تَرِقُّ له حروفُ الرُّوحِ
تفتحُ بابَ موقدهِ يداي.
وأنا تعبتُ
وقد فقدتُ جهاتِ وجهيَ
في ضجيجِ الشَّكِ
هل حقَّاً سأبصِرُني
إذا أمطرتُ وجهيَ في المرايا
أم يباغِتُني سواي؟
(صيف عام 1998)
***