مقالات

الجولان بعد القدس.. الشعوب في مواجهة جنون الهيمنة والاستبداد

رغم موجة الاستنكار العالمية، فعلها ترامب وقدم ما لا يملكه هدية لمن لا يستحق، معيداً إلى الأذهان جريمة “وعد بلفور”، مع اختلاف يفترض أنه كبير وجوهري بين زمنين، وعصرين، الجديد منهما يصفه الحالمون بأنه عصر النظام العالمي الذي يحترم سيادة الدول ويصون حقوق الشعوب!

هدية ترامب الجديدة للصهاينة، بعد نقله سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، كانت هضبة كاملة، ببشرها وشجرها وحجرها، حين وقع رئيس الدولة الأعظم في العالم أمس الاثنين 25 آذار/مارس 2019 مرسوماً يعترف فيه بسيادة الكيان المارق “إسرائيل” على الجولان السوري المحتل، بحضور رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وعدد من كبار مسؤولي الإدارة الأميركية، وما إن فرغ ترامب من توقيعه هذا القرار الإجرامي حتى قدم القلم الذي وقع فيه قراره هدية إلى نتنياهو، في دلالة لا أبلغ منها على سطوة الصهاينة على صانع القرار الأمريكي وقلمه الذي يعبث به بمصائر العالم، ومنها مصير الجولان، الأرض العزيزة على السوريين والعرب، التي احتلها الصهاينة بتهاون وتواطؤ لا ينساه السوريون من قبل وزير دفاع بلادهم حافظ الأسد خلال حرب حزيران، في العام 1967، حين خسر العرب في 6 أيام مساحة من أراضيهم أكبر من مساحة الكيان الصهيوني قبل تلك الحرب بعدة أضعاف.

خطوة ترامب التي تأتي مدفوعة بالدرجة الأولى بأسباب انتخابية أمريكية و “إسرائيلية” أيضاً، تحمل في طياتها مستويات عديدة من المضامين والمعاني والمخاطر، قد لا يحيط بها مقال محدود الأسطر، لكننا نحاول مقاربتها ما استطعنا.

فهي أولا دليل جديد على عنجهية وغرور ما فتئ صناع القرار في واشنطن يتعاملون بهما مع شعوب العالم المستضعفة، خدمة لمصالح الأمريكي أولاً، وحلفائه الصهاينة ثانياً.

وهذه الجريمة الأمريكية الجديدة تشكل دعامة إضافية لمشروع الصهاينة المتواصل في محاولة تصفية القضايا الناتجة عن اغتصابهم أرض فلسطين واحتلالهم أراض عربية في سوريا ولبنان، وتشريدهم الملايين من سكان هذه البلاد الأصليين كلاجئين ونازحين، وحرمانهم من حق العودة الذي أقرته قرارات أممية كثيرة، ووقف الاستيطان الذي يقوض أي فرصة للسلام المزعوم.

وتؤكد هذه الخطوة الإجرامية أن تهافت الأنظمة العربية على التطبيع المجاني مع الصهاينة، منح ترامب جرأة إضافية لتعزيز المكاسب الإسرائيلية دون أي مقابل أو “تنازلات” في أي ملف من ملفات التسوية، التي كذب القادة العرب على شعوبهم بإمكانية تحقيق اختراق فيها مقابل تهافتهم المروع على تقديم الطاعة والخضوع للراعي الأمريكي، إلى جانب أموال نهبها هؤلاء القادة من تعب وكد وثروات شعوبهم.

جرأة ترامب الوقحة هذه أتت دون شك من ضعف مواقف القادة العرب، ويقينه التام بأنهم وكل قادة العالم مجرد ظواهر صوتية في أحسن حالات شجاعتهم، فلا أثمان ولا خسارات ولا تحديات سيواجهها إن فعل، خاصة أنه اختبر وضاعة الحكام العرب وضعف ردود أفعال العالم على قراره قبل عام بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، وقد عبر ترامب عن ذلك بوضوح في حديثه لقناة “فوكس بيزنس”، قبل أيام مؤكداً أنه فكر في القيام بالاعتراف بسيادة “إسرائيل” على الجولان السوري المحتل منذ فترة طويلة، وأن هذا القرار كان صعباً بالنسبة لكل الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه، مضيفاً: “هذا يشبه مسألة القدس وأنا قمت بذلك”.

ولم يخطئ ترامب التقدير، فبعض القادة العرب لم يجدوا أدنى حرج ولم يلجأوا حتى للكذب على شعوبهم، لتبرير مجالسة وملاطفة نتنياهو في مؤتمر وارسو للشرق الأوسط الشهر الماضي بدعوة من واشنطن، ومناقشته بما أسموه “قضايا مشتركة” لا تشمل بالطبع قضية فلسطين، وكل ذلك حصل بعد قرار ترامب بنقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة!

وإضافة إلى كل ما سبق، يكرس هذا القرار الجائر الوقح سطوة القوة والهيمنة بالعنف على تاريخ وحاضر ومستقبل هذه المنطقة، ويعزز دعوات التوسل بالعنف باعتباره الوسيلة الوحيدة الباقية أمام الشعوب المظلومة لانتزاع حقوقها، وفرض قرارها بالاستقرار الآمن في بلادها، في ظل ازدراء القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة وعدم احترامها للقانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها ورفض احتلال أراضيها بالقوة، وما ينطوي على ذلك من مخاطر تشجيع دول مارقة أخرى على تجاوز النظام الدولي وتصعيد موجة حروب واحتلال وضمّ أراض بالقوة ونهب موارد شعوبها.

ترامب المجنون المتهور فعلها، وربما سيحظى بمزيد من الوقت والظروف المناسبة لفعل ما هو أكثر وقاحة وإيذاء لشعوبنا المقهورة وأحلامها بأوطان مستقلة حرة، وليس غريباً ولا مفاجئاً ما فعله لصالح الصهاينة في مسألتي القدس والجولان؛ فهو يحقق لنفسه مكاسب قبل كل شيء، وهو إلى جانب حمقه وغروره باعتبار أنه يعي كونه حاكم الدولة الأقوى عالمياً؛ يخدم مصالح قوى ساهمت في تمكينه من الوصول إلى البيت الأبيض؛ الأسود بتاريخه ومواقفه المنحازة أبداً إلى الصهاينة، إنه يخدم نفسه وحلفاءه دون أدنى خشية من خسارات أو مواجهات؛ خاصة في هذا الوقت الذي يتساقط فيه معظم حكام المنطقة عند أقدامه حفاظاً على عروشهم الغارقة بدم شعوبهم.

الغريب والمدان والمحتقر هو مواقف بعض السوريين والعرب الذين لا يشعرون بأي حرج من المجاهرة بمواقف التخلي عن القدس والجولان لترامب وبالتالي للصهاينة؛ دون أي هدف ولا منفعة مهما كانت ضئيلة أو محتقرة!

فلسطين لن تكون إلا عربية، والجولان سوري، ولا ينتقص من هويته مراسيم الحماقة والتهور الأمريكية، ولا غرق النظام السوري بدم شعبه وتوجيه مدافع جيشه إلى صدور مواطنيه بدل الدفاع عن الجولان، ولا وضاعة حكام المنطقة وتخاذلهم في الدفاع عن قضايا شعوبهم.. لكن أي عار وذل يغرق فيهما هؤلاء ويدخلهم تاريخ الهوان من أقذر أبوابه؟!

وأي تحديات تنتظر السوريين والفلسطينيين وكل شعوب المنطقة والعالم في مواجهة جنون قوى الهيمنة والاستبداد؟

الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *