شهد يوم أمس الثلاثاء حدثين مهمين، بالغي الخطورة على مستقبل المنطقة العربية، يخشى أن يؤسسا لمرحلة جديدة من الاضرابات وعدم الاستقرار، يقودها عبث دولي محمول على طموحات صهيونية لا تجد طرفاً عربياً وازناً قادراً على لجمها.
ورشة البحرين، واللقاء الأمني الثلاثي في القدس المحتلة، ليسا حدثين عابرين رغم كل الكلام الذي يدور عن فشلهما، فقادة العدو الإسرائيلي يبدون واثقين من أنهم قادرون على صياغة مصير ومستقبل المنطقة العربية، وتصفية أبرز قضاياها بما يتفق مع مصالح كيانهم المحتل، ويجدون في إدارة ترامب سنداً قوياً قادراً، بل رأس حربة في مشروعهم.
كما يجدون في نظام بوتين شريكاً موثوقاً بإمكانهم الاعتماد عليه في مشروع وضع ترتيبات جديدة للأوضاع في سوريا، تحفظ نظام الأسد من أي تغيير جدي يمكن أن يهدد مصالح العدو على هذه الجبهة النائمة منذ عقود بفضل اتفاق ضمني يؤدي فيه نظام الأسد دور حارس الحدود الشمالية لكيان الاحتلال.
في ورشة البحرين، غاب الفلسطينيون وهم الطرف الذي تستهدفه “صفقة القرن”، بقصد إنهاء رفضه لأي طرح لحل الصراع العربي الإسرائيلي، لا يأخذ بالاعتبار حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة.
وفي الاجتماع الأمني الثلاثي الذي عقده الصهاينة في القدس المحتلة بمشاركة أمريكية وروسية، وحضور إيراني خفي عبر الممثل الروسي، غاب السوريون وهم الطرف الذي ستعود عليه نتائج التوافقات التي يستهدف “الثلاثي” الوصول إليها، بهدف رسم نهائي لخرائط النفوذ، وإنهاء ملف صراع السوريين ضد نظام يحكمهم بالقتل والتهجير بمساندة حلفائه وأعدائه أيضاً، والقضاء على آمال الشعب بوطن حر مستقل.
هما حدثان مترابطان للغاية إذن، وتزامن انعقادهما ليس صدفة، بل لعل هذا التزامن متعمداً ويهدف إلى إرسال رسالة واضحة لكل شعوب المنطقة، مفادها أن مصائر هذه الشعوب وهذه المنطقة لا يمكن أن تكون بيد أبنائها، ما دام العدو الأول قادراً على التحكم بخيوط اللعبة الإقليمية.
خطة كوشنير التي قدم صهر ترامب رؤية عامة عنها في المنامة، تبدو ساذجة ومثيرة للسخرية، فالفلسطينيون رفضوا سابقاً مقترحات أكثر جدية، منحتهم ما هو أكثر بكثير مما تقدمه “صفقة القرن” لهم، وأسقطوا بدمائهم وتضحياتهم من الخطط ما يجعل الطرح الجديد على موعد مع فشل مماثل وربما أكثر سقوطاً.
وبالمقابل فإن خطة “الثلاثي” في سوريا، تبدو غير واقعية بالمرة، وهي تتحدث عن عمل مشترك إسرائيلي روسي أمريكي يقتلع النفوذ الإيراني من سوريا، مقابل الإقرار بنفوذ روسي طويل، وضمان استمرار نظام الأسد في حكم البلاد التي دمرها وقضى على شعبها بفضل الدعم الإيراني، مع ما يتضمنه هذا التصور من مغالطات وأوهام ورغبات غير واقعية، في ظل تمكن إيران من إحكام قبضتها على مختلف مفاصل الحياة السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، وحتى الإجتماعية في سوريا، برضى تام، وطلب من نظام الأسد وأركان حكمه!
كما يتغاضى مخطط “الثلاثي” عن نقاط إعاقة جوهرية تجعل من تحقيق المشروع صعباً للغاية، إن لم نقل باستحالته، فاستقرار سوريا لم يعد ممكناً بمجرد طرد الإيرانيين من مشهد معقد مفتوح لأصابع لاعبين كثر، منهم تركيا والسعودية والأردن، وغيرها من الدول، وقوى مليشياوية متنوعة، منها الفصائل الكردية والتنظيمات المسلحة المعارضة، والجهادية على وجه الخصوص، كما تغفل حقيقة أن الشعب الذي تذوق الحرية والخلاص من انتهاكات شبيحة وعناصر أجهزة أمن نظام الأسد القاتلة، ليس في وارد القبول مجدداً بالخضوع لإذلال وترويع نظام الأسد وانتقامه الأكيد في حال انتصاره الكامل، ولا يمكن إجبار هذا الشعب على اختيار الموت في المعتقلات بدلاً من الاستشهاد بالبراميل المتفجرة.
وفي فلسطين، كما في سوريا، لا يمكن إقناع الكثيرين بجدوى الوثوق بالضامنين، ويعتقد معظم الفلسطينيين ومثلهم السوريين، أن المقاومة أقل كلفة وأجدى من القبول بالعدو شريكاً، وبحليف العدو ضامناً، والذهاب إلى تصديق خطط ومقترحات لا تعني في جوهرها إلا الاستسلام للقاتل.
وإذا كانت الشكوك أكبر من قدرة أي عاقل على تجاوزها فيما يتعلق بأوهام أن تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط المحايد في ملف قضية فلسطين، لا سيما في ظل الإدارة الحالية التي منحت القدس هدية للصهاينة، بعد قرار ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، وتحارب الفلسطينيين في ملف المستوطنات وتحاول إنهاء أي دور للأمم المتحدة في ملف اللاجئين من خلال وقف تمويل وكالة الأونروا لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.. كذلك لا يمكن النظر إلى روسيا والعدو الإسرائيلي ولا حتى الولايات المتحدة على أنها أطراف محايدة في ملف الثورة السورية والحرب الدائرة في البلاد، فلكل طرف من هذا الثلاثي مصالح وأهداف لا تمت بصلة إلى أهداف السوريين الذين ثاروا على نظام قمعي استبدادي مجرم، ساعين نحو تفكيك بنية النظام الدكتاتوري، والانتقال إلى دولة عصرية يحكمها القانون وتسود فيها الحريات الأساسية التي تنعم بها معظم شعوب العالم.
والحال كذلك، يثور سؤال مهم: علامَ يعول أصحاب هذه الطروحات الجديدة، ولماذا يعتقدون بإمكانية تنفيذها ونجاحها؟
واشنطن تمضي قدماً في طرح صفقتها الجديدة لتصفية قضية فلسطين، مدفوعة بثقة كاملة أن الجبهة الفلسطينية مشتتة ومخترقة وغارقة في صراعات تشكيلاتها على سلطة منزوعة الصلاحيات، كما أن من صمت من قادة العرب والعالم على جريمة نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس المحتلة لن يفعل شيئاً بمواجهة خطوات أكثر خطورة، فالتهافت العربي للتطبيع مع الصهاينة يبدو مغرياً للغاية لقطع خطوات إضافية في الطريق نحو إنهاء قضية الشعب الفلسطيني مرة واحدة وإلى الأبد.
ويبدو أطراف الاجتماع الأمني الثلاثي واثقين أن قوى الثورة السورية والمعارضة تعيش أضعف مراحلها في ظل فقدانها قرارها المستقل وغرق تشكيلاتها في مستنقع توزع الولاءات للدول الداعمة، وأنه ما من حليف لثورة الشعب السوري، وأن من يسمون “أصدقاء الثورة السورية” غارقون في قضاياهم الداخلية وصراعاتهم مع أعدائهم، وتحكم نظرتهم للملف السوري مصالحهم الوطنية وقلقهم على الأمن القومي في بلادهم، وبعضهم ساهم في مسارات وخطط قوضت بشكل أكيد قدرة الردع والمقاومة لدى قوى الثورة والمعارضة السورية.
ليس هذا فحسب، بل يعتقد الكثير من صناع القرار والمحللين والباحثين في واشنطن وتل أبيب وعواصم القرار الدولي أن قادة عرباً كثراً يميلون إلى القبول بأي تسوية للملفين الفلسطيني والسوري مهما كانت جائرة، مقابل الحصول على القبول الدولي بهم وصرف النظر عن ملفات انتهاكاتهم بحق شعوبهم، وبالتالي حصولهم على مكاسب سلطوية في بلادهم، ونيلهم عطايا ومنح مالية تنقذ اقتصادات بلادهم التي أفقروها بالنهب والفساد وسوء الإدارة.
قد يبدو تعويل أصحاب رؤى حلول تصفية قضيتي الشعبين الفلسطيني والسوري صحيحاً وواقعياً، وأن خططهم في “صفقة القرن” ومشروع الثلاثي الخاص بسوريا ممكنة التحقيق، لكن هل سيتحقق لهم ما يطمحون إلى تحقيقه؟ وأي نتائج لهذا العبث الذي يغامر به هؤلاء؟
في دروس التاريخ عبر، وأبلغ هذه العبر تقول أن كفاح الشعوب من أجل مستقبلها لم يتوقف يوماً بفعل مؤامرة أو عامل خارجي، بل إن مثل هذه التدخلات ساهمت دائماً في نقلات جديدة في مسيرة الشعوب نحو أهدافها، وحفزت الأحرار على مزيد من الوعي بقضاياهم وأهمية اجتراح مشاريع مقاومة جديدة لنهضة شعوبهم، وكل هذا رهن بقوى الشعوب، نخبها وقادات مجتمعها وشبابها، ومواقف النخب في هذه المرحلة الخطيرة للغاية، يرصدها التاريخ.
الفلسطينيون والسوريون مدعوون اليوم إلى قراءة واقعهم الصعب والمعقد بوعي وجرأة، ليكونوا جديرين بمتابعة كفاحهم المشروع، وقادرين على وضع التصورات اللازمة لمواجهة التحديات التي تنتظرهم، وفيهم من القادة والنخب الكثير ممن يعول عليهم، فالشعوب لا تموت.