مقالات

الوطن أولاً / حقوق الأقليات في ضوء المشترك الوطني

يشهد قاموس المفردات السياسية راهناً سحب مفاهيم ومصطلحات كثيرة من التداول، شكلت منذ استقلال الدول العربية العمود الفقري للخطاب السياسي العربي، فلم نعد نسمع مفردات الوحدة والثورة والتحرير والصمود والتفاوت الطبقي وغيرها الكثير، أمام المد الطاغي لمفردات كان المواطنون يخجلون من الهمس بها، من قبيل: سني، وشيعي، وعلوي، وكردي، وتركماني….الخ، ويبدو فيما يبدو أن مفاعيل القمع الطويل من جهة وانتقال الأمريكيين للإقامة في المنطقة كجيران ثقيلي الدم من جهة أخرى بدأت تؤتي ثمارها.
وبحكم كوننا منفعلين لا فاعلين في القضايا التي تحدد مصيرنا، فإن التداعي للبحث في مسألة التنوع والتعددية في بنية النسيج الوطني، فرضه الواقع الخطير الذي يجري فيه التركيز حالياً على مسألة الأقليات وحقوقها، هذه المسألة التي تكاد تعصف بآخر ذرات الحبر التي صاغت منذ قرن من الزمان خريطة المنطقة، وللتذكير، فإن هذا الحبر لم يكن حبرنا ولا من يحزنون!!
ينظر إلى الأقليات معرفياً على أنها: مجموعات بشرية تختلف عن كتلة الأغلبية في متغيرٍ أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو العرق، مما يضفي على هذه المجموعة البشرية عدداً من الخصائص الاجتماعية والاقتصادية الحضارية، تميز سلوكها ومواقفها السياسية تجاه ظواهر مجتمعية رئيسية.
ويعرف علم الاجتماع الجماعة الإثنية بأنها: مجموعة بشرية يشترك أفرادها في العادات والتقاليد واللغة والدين وأي سمات أخرى متميزة بما في ذلك الأصل والملامح الفيزيقية والجسمانية.
والثابت تاريخياً أن ما من قومية أو وطنية كانت تخلو من هويات متعددة متشكلة داخل نسيجها، دينية أو مذهبية أو إثنية أو لغوية، وأن الأقليات انطلاقاً من هذا الثابت هي واقع اجتماعي لم يتم تجاوزه عبر التاريخ إلا بالأساليب اللا إنسانية، وهي بالمحصلة لا يمكن وضعها في حالة تناقض ومواجهة مع القوميات والوطنيات، إلا من منطق سوء الفهم لحقائق تاريخ المجتمعات البشرية.
ويكفي للدلالة على مدى التنوع الذي تتصف به البشرية على هذا الصعيد، أن نذكر أن حوالي سبعة آلاف لغة، وأكثر من ثمانية آلاف إثنية مختلفة تتوزع على ما يقارب مائة وتسعين دولة منضوية تحت جناح منظمة الأمم المتحدة.
هذا التنوع يقوم إذن على التميز في صفات سبق أن أشرنا إليها، وعندما تعي الجماعة ما تتصف به من صفات تدرك تميزها عن الجماعات الأخرى، وهذا التميز” ينطوي على عنصر ذاتي، وعلى عنصر موضوعي، العنصر الموضوعي هو وجود الاختلاف أو التباين بالفعل في أي من المتغيرات ( اللغة، أو الدين، أو الثقافة، أو الأصل القومي والمكاني، أو السمات الفيزيقية)، أما العنصر الذاتي فهو إدراك أفراد الجماعة وإدراك الجماعات الأخرى القريبة منها لهذا التباين والاختلاف، وهو يؤدي إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة في مواجهة الجماعات الأخرى.(1)
هذا الانتماء يعبر عنه ضمن الإدراك الواعي للهوية الوطنية المشتركة، في المجتمعات التي تحقق أنظمتها السياسية لمواطنيها المساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بينما يغدو محفزاً على التمسك بالخصوصية، والدفاع عنها، والتمترس خلفها، حين تعجز هذه الأنظمة عن تكريس مبدأ المواطنة، بسبب ممارساتها الإقصائية، أو الإدماجية القهرية، أو التمييزية على قاعدة اللا تساوي في المواطنة، وهكذا تغدو الهوية الخصوصية للأقلية المستهدفة محل تهديد في نظر المنضوين تحت لوائها، وبالتالي يصبح التميّزُ دافعاً لتبني خيارات إجبارية متمثلة في التقوقع على الذات المتميزة، و شعور عميق بعدم الانتماء للهوية الوطنية المشتركة، واللجوء إلى التعصبات الما قبل وطنية، والتي تشكل في لا وعي هذه الأقليات الملجأَ من الذوبان وتلاشي خصوصيتها، وهذه هي بالضبط مقدمات التشظي والتمزق في النسيج الوطني، ولكنها ليست أخر المطاف الدامي ولا شك.
ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى خطورة الدور السلبي الذي تلعبه التدخلات الخارجية في الشؤون الوطنية على صعيد إثارة قضايا وحقوق المجموعات الإثنية من الأقليات، فالغزو الصليبي لمنطقتنا جاء على خلفية الإدعاء بحماية حقوق المسيحيين من الاضطهاد الإسلامي، ومثله فعل الاستعمار الأوروبي الذي عمل ما باستطاعته على تكريس فصل الأقليات عن محيطها العام وإظهار تمايزها عن مجتمعها الوطني، وممارسات الفرنسيين في سوريا إبان استعمارهم لها تؤكد مدى أهمية عامل التنوع وخطورته على النسيج الوطني عند يراد له أن يصبح محرضاً على بروز العصبيات وتوتير بؤر الصراع المحتملة من خلاله.
إلا أن طبيعة التعامل التي تنتهجه الأنظمة الحاكمة مع الأقليات على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تظل هي الحاسمة في مسألة بناء نسيج وطني متماسك ومستقر، وليكون الاندماج ممكناً وفعالاً بين جميع المجموعات البشرية المتمايزة التي يتكون منها جسد الوطن، ينبغي على السلطات السياسية تحقيق جملة من الاشتراطات التي تكرس قيم العيش المشترك على قاعدة الاعتراف بالتنوع، والتسامح، وضمان حق الآخر في الاختلاف، واحترام حقوق الإنسان، للوصول إلى مجتمع الاندماج والانصهار الوطني، وهذه الاشتراطات لا غنى عنها من أجل أن لا يتحول وجود الأقليات في النسيج الوطني إلى مشكلة ونقمة، في الوقت الذي يجب النظر فيه إلى هذا التنوع على أنه مشهد حضاري يعكس انسجامُ مكوناته المختلفة رقيَّ أبناء الوطن وسمو أخلاقهم وغنى تجربتهم الحضارية.
في سوريا تبدو اللوحة المجتمعية معقدة بسبب تنوع مكوناتها من المجموعات البشرية، فهي مكونة من تنوع أقوامي وديني وطائفي كبير، ولم يكن التنوع الديني أو الطائفي في أي مرحلة من مراحل تاريخ سوريا سبباً في ظهور احتراب بين هذه الجماعات إلى أن تمكن النظام الأمني الشمولي من تفتيت هذا البنيان المتلاحم بلعبه لعبة الاصطفافات المخزية، وتلوين نفسه بلون طائفة واحدة على حساب البقية الباقية المضطهدة، مع التأكيد أن الطائفة التي سعى النظام للاحتماء بها، مدعياً أحقيته في تمثيل مصالحها ما تزال في غالبيتها تعاني الفقر والتهميش مثل غيرها من الطوائف، وما يميزها عن غيرها من الطوائف ميزتان اثنتان، أولاهما قلة من أعوان النظام المنعمين، ثروة وسلطة، وثانيهما محاولة استخدامها من قبل النظام كدرع واقٍ وأداة تعبوية، ويمكن القول أن تمترس النظام خلف سور الطائفة، وتجييشه الدائم للتشكيلات المجتمعية ضد بعضها بعضاً أحد أهم أسباب الاحتقان الطائفي والإثني في سوريا.
أما فيما يتعلق بالتعددية القومية، فإن القوميات في سوريا تتوزع على قوميات أصيلة وأخرى وافدة، القوميات الأرمنية والشركسية والتركمانية هي قوميات الأقليات الوافدة إلى سوريا على خلفيات كثيرة لا مجال للبحث فيها في هذا المقام، بينما تشكل القوميات العربية ـ وهي الأكثرية ـ إلى جانب الأقليات الآشورية والكردية قوميات أصيلة، عاش أفرادها عبر التاريخ على أرض سوريا، أثروا وتأثروا بكل ما من شأنه أن يسمى تاريخ سوريا القديم والحديث، هذا التفاعل القائم على التسامح والمشاركة عكس صورة نموذج راقٍ للشخصية الوطنية السورية، مما يمثل من الناحية الأنتربولوجية غنى حضارياً ينطوي على ثراء ثقافي وأخلاقي ينظر إليه باهتمام عند دراسة مدى انسجام العناصر البشرية المكونة والمساهمة في حضارة ما من الحضارات الإنسانية، وهذا الانسجام لم يتعرض للخلخلة إلا على يد النظام الذي ابتلع الدولة واختصرها وحولها منذ أربعين عاماً إلى أجهزة تتقن تماماً لعبة العزل والتهميش وضرب اللحمة الوطنية والاندماج الطبيعي، بإقامة شكل فارغ من الوحدة الوطنية القائمة على الحلول الأمنية القامعة لكل خصوصية، سواء كانت خصوصية الأكثرية أم خصوصيات الأقليات.
ولما كانت الأقليات أكثر حساسية تجاه المس بخصوصياتها، فقد أصبحت أكثر تشبثاً بانتماءاتها العميقة، مما كرس نمو الأطر والعصبيات ما قبل الوطنية الأكثر تخلفاً كردود فعل دفاعية وتكيفية بهدف حماية التميزات واستيعاب الجماعات البشرية وخصوصياتها الذاتية، خوفاً من تعرض خصوصياتها وهوياتها المقموعة إلى مزيد من القمع والإلغاء.
وبهذا صار السلم الأهلي والاجتماعي والوطني أكثر عرضة للاهتزاز من أي وقت مضى، وصار احتمال قيام صراع إثني أو طائفي أو قومي يلوح في أفق الوطن الغارق في الأزمات حتى شحمتي أذنيه، وظهرت بوادر أو بروفات هذا الصراع في أكثر من مكان في الوطن.
وما من خط دفاعي يعزز مفهوم الوحدة الوطنية ويكرس انتماءً حقيقياً للوطن مثل المواطنة الحقيقية القائمة على الاختيار الديمقراطي الحر بعيداً عن ممارسات الدمج اللا طوعي والتذويب القسري، ومن أجل تجسيد المواطنة في الواقع، على القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع، على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الأفراد والجماعات. وعلى القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الأفراد، وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية، وعليه أيضاً ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف، كما أن على القانون أن يمكن الأفراد من أن يشاركوا بفعالية في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم، وأن يمكنهم من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتسبون إليها”.(2)
إن الاعتراف بخصوصية الأقليات في ضوء المشترك الوطني هو السبيل ليأخذ شعار “الوطن أولاً” سبيله إلى التطبيق العملي، وهذا لا يكون إلا بوضع الأوليات التالية في صلب برنامج إنقاذي للوطن، تأخذه المعارضة الوطنية على عاتقها:
1ـ اعتبار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرجعية قانونية لحقوق الأقليات في ممارسة شعائرها الدينية والتعبير عن خصوصياتها الثقافية واللغوية، نظراً لكون هذا الإعلان أهم وأكمل وثيقة متفق عليها ترعى حقوق البشر وتساهم في منع تركيز العصبيات.
2ـ اعتبار المواطنة ـ كمنظومة متكاملة من الحقوق والواجبات ـ معياراً لتمتع المواطن بحق المشاركة في مختلف قضايا وطنه، بما يهيئ لشراكة وطنية سياسياً واقتصادياً بين جميع مكونات المجتمع يسهم الجميع عبرها في بناء الوطن والانتفاع بخيراته المادية والمعنوية على قدم المساواة.
3ـ بناء حياة سياسية قائمة على الديمقراطية والعدالة، يكون جوهرها التركيز على مبدأ المساواة والتكافؤ بين جميع أفراد الوطن على اختلاف التشكيلات المجتمعية المنتمين إليها في الحقوق الدينية والسياسية والثقافية وفي الفرص الوظيفية والإدارية والسياسية و تكريس قيم التسامح و نبذ كل أشكال التمييز والإقصاء والإلغاء.
إن النزعات الشوفينية و التعصبات الدينية أو المذهبية أو القومية، لا تبني أوطاناً، وقد أثبتت عقم طروحاتها، ومدى تهديدها لطموحات البشر في العيش بسلام وأمن وطمأنينة، ومادامت الأقليات تنعم بحقوق متساوية مع حقوق الأكثرية، فإنها ولاشك وبسبب خصوصياتها الثقافية ستمارس دوراً هاماً في إضفاء المزيد من الألوان الحضارية على مكونات النسيج الوطني.
وختاماً نرى من المفيد التذكير بأن أهل هذه المنطقة على اختلاف مكونات تركيبتها البشرية، دينياً وثقافياً وعرقياً، وقفوا مرات عديدة متوحدين أمام الأطماع والهجمات الخارجية، الصليبية والمغولية ….. الخ، وعليهم في هذا الظرف الذي ينطوي على خطرين بآن واحد، خطر خارجي وآخر داخلي يمثله النظام المستبد، أن يتجهوا إلى المشترك الوطني، باعتباره المنقذ الوحيد.
هكذا كانت سوريا عبر التاريخ، والآن وبعد أن بدأت يد القمع تمتد لتعبث بالمحرمات، لا بد من وقوف أبنائها جميعاً لرد الأذى عنها، نعم الوطن في خطر، وآن للجميع ـ أكثرية وأقليات ـ أن يعوا أنهم مستهدفون.
************
هوامش:
(1) د . سعد الدين إبراهيم، تأملات في مسألة الأقليات، ص 23، دار سعاد الصباح، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، القاهرة 1992.
(2) الدكتور علي الكواري: مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية، دراسة منشورة في مجلة المستقبل العربي، العدد 264/ 2001 مركز دراسات الوحدة العربية.

 

الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *