آخر ما يحتاجه المواطن السوري الآن هو الاقتصار على المستوى التجريدي في تداول المفاهيم، إذ يبدو من قبيل العبث والترف المعرفي الذي لا طائل منهما، الانهماك في الثرثرة عن المواطنة، وتجنب الحديث عن مواطن محروم من تقرير ما يشاء، والتعبير عما يشاء، والانتماء بمشيئته إلى ما يشاء، وكذلك الأمر في التنظيرات التي يتحفنا بها أركان النظام السوري عن الحرية، والدولة، والهوية الاقتصادية، في حين يقفزون عن الحديث عن مواطن حر ومستقل، وعن دور الدولة في ضمانها لتساوي جميع أفرادها أمام القانون، وحقهم في الانتفاع بالقيم المادية والمعنوية بعدالة وتكافؤية، دون تمييز إلا بالكفاءة.
وقبل أن يستغرق الجانب الاقتصادي مقالنا، نؤكد على مسلمة نزعم أن لا خلاف عليها بين العاقلين، وهي أن الإنسان هو أداة وهدف التنمية بآن معاً، وليكون أداةً للتنمية، ينبغي أولاً تمكينه من ممارسة حريته في الاختيار من بين عدة ممكنات، ومن هذا المنطلق يُنظر إلى وظيفة الدولة ـ باعتبارها عقداً اجتماعياً ـ على أنها إطار لبناء فكرة المواطنة وتعزيز الحريات وتنمية المواهب والمبادرات، وتمكين المواطن من الاستغلال المشروع لطاقاته وموارد الوطن، بغية بلوغ الدولة مستوى حضارياً يليق بطموح مواطنيها.
هذا الهدف الحضاري يتطلب قبل كل شيء تنميةً اجتماعيةً يتوقف إنجازها والتقدم فيها على معاصرتها لتنمية اقتصادية تتوافق مع ظروفها، ونجاح هذه التنمية المزدوجة يتوقف على حسن إدارتها، وكل ذلك لا يجدي فتيلاً بدون وجود حياة سياسية، يشعر فيها المواطن بموجوديته و فعالية قراره الحر، وقدرته على محاسبة من يخطئ، من دون أن يخشى ردود فعل انتقامية تطال كرامته أو مصدر رزقه أو …..
رغم تعاظمه، فإن قلق السوريين من انسداد الأفق أمام حل مشاكل مزمنة في الحياة السورية من قبيل مشكلة البطالة واستشراء الفساد وغيرها الكثير، لا يقارن بقلقهم أو بالأحرى رعبهم القاتل من القادمات من الأيام، ولاسيما من تداعيات اشتراطات الدخول في الشراكة الأوربية المتوسطية في ظل نظام الحكم الحالي الذي لا يعرف إلا كيف تؤكل كتف مواطنيه, وهو رعبٌ له من المبررات ما يكفي، إذ إن السوريين يعرفون تماماً هشاشة قوة العمل، وقصور نوعية التعليم وكمية المعرفة، وهذا القصور سيؤدي لا محالة إلى إقصاء الكفاءات السورية عن شغل مواقع هامة مستقبلاً، إضافة إلى ضعف فعالية النقابات نتيجة تبعيتها المفضوحة، وتدهور مصداقيتها وتراجع أخلاقية العمل بين أعضائها، وضعف بناها التنظيمية، وهذه الحالة تجعلها غير مؤهلة للدفاع عن المكاسب ـ إن وجدت ـ وغير قادرة على الوقوف أمام موجات التسريح التي ستشهدها الصناعة السورية، عداك عن تهاونها في المطالبة برفع الأجور والتعويضات الاجتماعية والمعاشات، فتبدو هذه النقابات وكأنها خط الدفاع الأول عن مصالح النظام السياسي(رب العمل)، لا راعية لمصالح وحقوق من تمثلهم!
فهل تتحمل التركيبة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو كلها مجتمعةً، دون السياسية مسؤولية نقص المناعة أمام الأمراض المحتملة لهذه الشراكة، التي نحمد الله وحده على تأجيلها بغير إرادة النظام ؟
الإحصائيات الرسمية كشفت عن نسبة بطالة تصل إلى 20 0/0 من إجمالي الذين هم في عداد قوة العمل الفعلية، ويحتاج إيجاد فرص عمل لهذا العدد الضخم من المعطَلين عن العمل إلى نسبة نمو لا تقل عن 10 0/0، فيما آخر التقارير الرسمية تشير إلى أن نسبة النمو لا تزيد عن 1.50/0 ، فهل يمكن لنسبة نمو هزيلة كهذه أن تمتص البطالة الموجودة حالياً؟ وما مصير الوافدين إلى سوق العمل والذين يقدر عددهم سنوياً بـ 185 ألف وافد؟ وبحسب تصريحات المسؤولين السوريين فإن اقتصاد السوق الاجتماعي الذي تبناه النظام كهوية اقتصادية للاقتصاد السوري يمكنه في أحسن الأحوال وخلال خمس السنوات القادمة تحقيق نسبة نمو لا تتعدى 60/0، وهذا اعتراف رسمي بعدم القدرة على حل معضلة البطالة التي تنذر بمخاطر جمة، يدرك الجميع أبعادها باستثناء واضعي خطط التنمية في سوريا!!
نصف نسبة البطالة هذه كافية لاستقالة أي نظام حكم يحترم نفسه في العالم، أما في سوريا البعث فإن الوضع لايزال قائماً على ما هو، وما على المتضررين إلا اللجوء إلى الصمت، أو ضرب رؤوسهم بأي جدار، وابتلاع وجبات القهر اليومية التي تفوق بعددها أضعافاً مضاعفة عدد وجبات الطعام الشهرية التي يتناولها المواطن السوري.
تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة كشف عن 5.3 مليون سوري فقير، و مليونين لم يشبعوا حاجاتهم الأساسية، وكل هذا باعتراف النظام السوري، الذي أقام احتفالاً ليعلن عن فقر شعبه، لكنه بالتأكيد لا يلقي باللائمة على سياسات جهابذته، وهنا نشير إلى قول نائب رئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري: ” ليس من المعيب أن نستعرض أرقام الفقر في أي بلد، العيب ألا نعرضها…. نحن فخورون لأننا اليوم نعرفها ونطور السياسيات التنموية للقضاء على الفقر لأن هدفنا اليوم وفي المستقبل هو رفاه المواطن السوري”، وما لم يقله الدردري أن المواطن السوري لا يشعر بأيّ فخرٍ حيال الوضع المزري الذي يغرقه فيه نظام الحكم، في الوقت الذي تنمو فيه ثروات أعوان النظام وأزلامه نمواً مضطرداً، ولا يخشون في مفاخراتهم لومة لائم!!!!
وبالتأكيد أيضاً يعرف المواطن السوري على أرض الواقع ما لا يعرفه خبراء المنظمات الدولية، ولكنه لا يجرؤ على مجرد البوح بآلامه ومعاناته، فما هو الحال فيما لو تجرأ أحدهم على سؤال أرباب النظام عن مسؤوليتهم، وللتذكير فقط ، فإن أحداً من المسؤولين السوريين الذين أشبعوا البلاد والعباد نهباً وقهراً لم يحاسب قط، ولا يتوقع المواطن السوري من حملة مكافحة الفساد التي أعلن عنها النظام في مؤتمر حزبه الأخير إلا عرضاً مسرحياً ممجوجاً وهابطاً بدءاً بالسيناريو، انتهاءً بالجمهور الذي سيصفق حتماً، خوفاً أو طمعاً، وسيبقى عرض الفاسدين وفسادهم مستمراً وعلى عينك يا تاجر!!!!
نمط الاقتصاد الذي كرسه نظام الحكم السوري ـ وهو اقتصاد ريعي ـ يسعى إلى ضمان تحكم الدولة بوسائل الإنتاج، بما يحقق مراكمة الثروات للفئات المسيطرة فيها، إضافة إلى التحكم بمصير المواطنين عن طريق إفقارهم وربط مواردهم بما تقدمه الدولة لهم من أجور تكفل لهم العيش ضمن مستوى الكفاف المادي، ولم يكن عسيراً ـ بقدر ما كان مؤلماً ـ على السوريين أن يشهدوا استخدام الدولة من قبل النظام كأداة أساسية في خلق شروخ طائفية في البنية الوطنية، ويمكن ملاحظة ذلك ببساطة في أي دائرة حكومية، إذ عمد النظام إلى تقديم مكافآت التوظيف في قطاعه العام لأبناء الطوائف الموالية، بغض النظر عن الكفاءة، في انتهاك صارخ للدستور الذي وضعه النظام نفسه، مما ساعد في نمو بذور الاحتقان الطائفي، وكرس منهجاً لإفقار الناس وتجويعهم، وبالتالي دفعهم لهجرات اضطرارية لا تختلف في حقيقتها عن النفي، ونذكر هنا بما أكدته وزيرة المغتربين السورية من أن حوالي عشرة ملايين من السوريين يعيشون في بلاد الاغتراب، و هؤلاء لم يتركوا بلادهم بطراً بكل تأكيد!!
كل هذه الأساليب ساعدت النظام على تحديد تفاوت طبقي من نوع جديد، في ظل التوزيع غير العادل للثروة و تحويل جزء هام من الدخل الوطني إلى جيوب العصابة التي تسيطر سيطرة شاملة على موارد الدولة، وتبديد جزء آخر من الدخل على تمتين وتعزيز بنية الأجهزة الأمنية التي يوفر لها النظام كل ممكنات القيام بواجبات قهر المواطنين دون حساب.
الاقتصاد السوري بوضعه الراهن يكرس شللاً فاضحاً في قوى الإنتاج، بما يمارس فيه من نهب وهدر وبيروقراطية، وتبدو فيه الدولة مجرد مجلس إدارة من الفاسدين، يدير مصالحه ويصرّف نفوذه على قطاعات الدولة كما يشاء، ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى مسألة تضخم الدولة نتيجة سيطرتها على دور رب العمل مما مكنها من احتكار مهمة توزيع الثروة، وشكل هذا الدور مطمعاً لمسؤولي الدولة بسبب الامتيازات الضخمة المتاحة لهم، فالإثراء السريع صار يشكل لهؤلاء ناتج ولائهم لنظام الحكم، وغدا الفساد السياسي بذلك صفة ملازمة لهذا النظام.
وتبدو ظاهرة الفساد السياسي جلية وواضحة في تحكم واحتكار أبناء المسؤولين وأعوانهم قطاعات الأعمال الاقتصادية الحيوية، الأكثر والأسرع ربحاً، وفي تلقي هؤلاء عمولات وأتاوات لقاء تسهيلهم إبرام عقود الدولة مع شركات محلية وخارجية، كل هذا يضاف إلى الشلل المركزي الذي يقع في صلب اقتصادنا باعتباره قائماً على تصدير المواد الخام، وفي أحسن الأحوال المواد نصف المصنعة، مما يحرم خزينة الدولة والعامل والمواطن بشكل عام من الاستفادة من القيمة المضافة، ولا يخفى على أحد مقدار التطور الذي طرأ على هذا المفهوم، فالقيمة المضافة في عصرنا ـ عصر ثورة المعلومات والاتصالات ـ تخطت حدود مفهومها الكلاسيكي، وصارت اليوم تشتمل على قيم مضافة غاية في التنوع، ناتجة عن إنتاج الأفكار وتداولها كسلع تتمتع بقيم مضافة عالية جداً، وهذا النوع من السلع حديث كل الحداثة، ويشكل فهمه والتعامل معه ـ قبل إنتاجه ـ نقطة تحول في مفهوم العمل ذاته، وتبدو كبرى الاستثمارات العالمية اليوم متجهة إليه بقوة، فيما يترنح الاقتصاد السوري تحت ضربات ابتلاع المسؤولين أقصى ما يمكنهم ابتلاعه من قوت الناس، إضافة إلى اضطراب رؤية مشرعي السياسات الاقتصادية ومخططيها ومنفذيها، وتبدو معه سوريا ليست دولة نامية، وإنما دولة نائمة بامتياز!!! ومن لا يصدق، فعليه بتقرير ال
One Comment
Hi, this is a comment.
To get started with moderating, editing, and deleting comments, please visit the Comments screen in the dashboard.
Commenter avatars come from Gravatar.