شعر قصائد شعرية

يساور عيني فضاء جديد

يساور عيني فضاء جديد

شعر: عمر إدلبي

خارجٌ من كُوى اللَّيلِ
أبحثُ عن شرفةٍ من ندى.
كي أرى مطرَ اللهِ جهراً،
فتنكَشِفُ الرّوحُ
أكثرَ من جهةٍ لا تُحَدُّ
وأُمسكُ خيطاً بثوبِ المدى.
خارجٌ من راديَ،
قديميَ ما حدَّثَ الغيبُ عنّي
وما لا أُريدُ.
ليس لي غير قلبي
وهذي السّماءُ حرامٌ عليَّ
-كما يحكمونَ-
إذن يا سماءُ،
يساورُ عيني فضاءٌ جديدُ.
**
ما لهذي البلادْ؟
أَحرُسُ النومَ في جفنها
ويسبِّحُ وجهي بحمدِ سنابلها،
فتخبئُ عن أمنياتِ العيالِ
كؤوسَ الحَصادْ.
حيّرتني وقد أَرضَعْتني صغيراً حدائقَهَا،
كيفَ تغلقُ نافذةَ العطرِ
في وجهِ باقة وردي
وتقطفُ رأسَ صبايَ؟
كأنِّي غريبٌ،
ويسرق منّي الخريفُ
الغيومَ التي ظلّلتني صبيّاً،
فأهربُ من غربتي للذّهولْ.
حيّرَتْني،
كأنّي غريبٌ،
وتسكنُ قلبي مدينةُ رملٍ،
أُلاحقُ فيها الشَّوارعَ
لستُ أُحبُّ المفارقَ
حينَ تُمارسُ حِنكَتَها في التَّشابهِ
حتّى يضيقَ بوجهي احتمالُ الوصولْ.
هل غريبٌ أنا
أم قُراها تشيخُ ويغزو بيادِرَهَا الشّيبُ؟
لا،
لن أقولَ قُراها تضيقُ
على نخلةٍ من رؤايَ،
غريبٌ إذن،
وغريبٌ لأنَّ السَّرابَ
أَشَدُّ اتّساعاً من العينِ،
أَمكَرُ من إخوةٍ ورَّثوا طيبتي البئرَ
بعد اقترافِ القميصِ،
غريبٌ لأنَّ البلادَ
أَشَدُّ التباساً عليَّ من البئرِ،
والأصدقاءُ أراهمْ
كما لا أريدُ.
إن يكن للسماءِ صدى صوتهم
والبلادُحرامٌ عليَّ
-كما يحكمونَ-
يساوِرُ عيني فضاءٌ جديدُ.
**
أَيُّ أرضٍ ستمسي أنا
لو أُحبُّ؟
تَمدُّ أصابعَها لشفاهي
كما لو تقولُ:
العتابُ يطولْ.
كمْ يُغيِّرُ دمعي شوارعَهُ السُّودَ
ينحتُ ربَّاً من الصَّبرِ
يأكلهُ ثمَّ ينحتُ
ثُمَّ..
أما آنَ للبابِ
أن يتعرَّفَ بي مرةً
من كثيرِ وقوفي
ويمنحَ صبري الدّخولْ؟
أيُّ أَرضٍ ستكملُ بي دورةَ الوقتِ
كي أتركَ النَّومَ فوقَ سريري،
وأوقنَ أنَّ النَّهارَ مسلَّمةٌ
والفصولَ حقيقيَّةٌ
والربيعَ يعودُ؟
أي بردٍ أراوغُ؟
كلُ الفصولِ التي ابتكروها
جليدٌ.. جليدُ.
كم أنا واحدٌ لم أجد ليَ سرباً
يساورُ جنحيَ دَفءٌ جديدُ.
**
لا أقلَّ من الدّمعِ يجمعُنا،
ما هوَ السِّرُّ
كي يترصَّدَني من أُحبُّ
بألسنةٍ لا تجيدُ الحياءْ؟
من ضفائرِ غيمٍ كما الثلجِ
من ماءِ كوثرهِ العسليِّ
اصطفى اللهُ قلبي،
وها إِنَّني
كلَّما اتَّسَعَتْ حولَ جذعي الدَّوائرُ
أرسُبُ أكثرَ من أي يومٍ مضى
قُربَ فوضى ذهوليَ
أرسبُ أكثرَ من أي حزنٍ مضى
في سحيق البكاءْ.
من سكونٍ جليلٍ
كما قمر لا يغني
لئلاّ يحسَّ بهِ عاشقانِ
تعلمت فاتحة الشعراءِ،
وها إِنَّنِي طاعنٌ بالصَّفيرِ
ولم أنتظرْ بَعْدُ قربَ المحطَّةِ
غيرَ ثلاثينَ وَهْمَاً
كأنَّ المحطَّاتِ قَبْلي
تُسَرِّبُ ما أشتهيهِ من الأصدقاءْ.
لا أقَلَّ من الخبزِ يجمعُنَا
أعرفُ الآنَ كم عاجزٌ حبرُ شِعري،
أرى لغتي لا تفكُّ الأنينَ
ولمْ تَمْحُ أُمِّيَّةَ الصَّوتِ
كي أستطيعَ النِّداءْ.
شِعرُ!!
كنْ ليَ وحياً
لأخْرِجَ يَثربَ ثانيةً
عن مدارِ القبائلِ والأولياءْ.
شعر!!
كن ليَ نوراً..
ألوذُ بقنديلكَ المستطيلِ
إلى خصبِ روحي،
إذا أَنتَ لم تنسكبْ في يديَّ
فمن أين آتي بوجهي المطيرِ
وجسرُ الغيومِ ترنَّحَ تحتي؟
قديميَ زَخَّةُ صمتٍ ثقيلٍ
ومسرى نشيديَ حلمٌ بعيدُ.
إن يكنْ للسّكوتِ صدى صوتِهمْ،
والغناءُ حرامٌ عليَّ
يساورُ شعري كلامٌ جديدُ.
**
لم أَمُتْ بعْدُ
حتّى يلاحقَني عدمي
وتفتِّشَ روحيَ عن هيئةٍ للحلولْ.
لم أمت بعدُ
كلُّ العصافيرِ تحفظُ وِرْدِيَ
عن ظهرِ قلبٍ
وخطوتُها في هُيامي تطولْ.
لم أمت غير أنّي
أرى قريتي الآنَ
تنسلُّ من صوفِ ثوبيَ
خيطاً فخيطاً
بأيدي الجنودِ
فكيف إذن
لا أرى الموتَ أعمقَ معنىً
من الحبِّ
في ملكوتِ المحيطِ
الخليجْ؟
كلُّ هذي الحياةِ
وشاهدتي ولِدَتْ قبلَ ثوبِ الطفولةِ
قبل ابتسامةِ أمّي
فكيفَ إذن
لا أكونُ أنا وارثَ الموتِ
حينَ يَهُبُّ عليَّ
الهدوءُ ضجيجْ؟
ربّما لستُ أكثرَ من وارثِ الموتِ
لكنَّنِي لم أمُتْ بَعْدُ
حتّى يَسُودَ النَّشيجْ.
من يدي يرشحُ العمرُ حزناً
فحزناً
وكلُ قديميَ مالا أُسَمِّيهِ عُمري
وعمَّا صباحٍ سيصحو الوريدُ.
لو دمائي التي علمتني الشقائقُ ألوانَها
ستنامُ طويلاً،
سيسكنُ نبضيَ دفقٌ جديدُ.
**
خارجٌ من ردايَ
وأبدأُ من نقطتينِ على سطرِ عمري
أسَميهما:
حلمي.. والمدى.
لا أريدُ لناعُورةِ اللّيلِ
أن تَغرفَ الدّمعَ من نومِهِ
وتسرِّبَهُ لترابِ صبايَ،
بوسعيَ أن لا أَمُرَّ
على وشمِ خولةَ في ظاهرِ الجلدِ
أطلالُها لا تحاورُ صوتي
بغيرِ الصَّدى.
خارجٌ من ردايَ
وليسَ بوسعيَ
أن لا أمرِّرَ شِعري
على نبضِ زيتونةٍ
في مهبِّ الأَنينْ.
علّمتني العصافيرُ من لغةِ الصّبحِ
ما سوفَ يكفي
لأطلقَ أجنحةَ الأغنياتِ إلى آخرِ الوَردِ
كيف بوسعيَ أن أدَّعي الشّمسَ زنزانةً
والهواءَ سجينْ.
لمْ تعدِني السفينةُ يوماً بشطٍّ
ولكنَّني لا أمَلُّ منَ الرّيحِ
والرِّيحُ ندَّابةٌ
ضيَّعتْ عمرَها بالعويلِ
ستجري وَلَو بعدَ حينٍ
كما أمنياتُ شراعي تريدُ.
لمْ يَعِدْنِي السُّكونُ بشيءٍ
ولكنَّني لا أمَلُّ من الصَّمتِ
عيني ستُخرجُ سبعَ سنابلَ،
في كلِّ سنبلةٍ
أبجديَّةُ صوتٍ نديٍّ
يطوفُ على راحتيهِ الوجودُ.
علّمتني العصافيرُ
أنَّ قديميَ ما أَوَّلَ الغيبُ عنّي،
وَمَا مَلَّ عُمْريَ مِنهُ ومنِّي،
فأيُّ قديمٍ سيُبقي الجديدُ؟
كانَ ما كانَ
لكنّني خارجٌ من ردايَ،
لأنِّي إذا مَلَّ قلبيَ مِتُّ
يُساوِرُ أحلامَ عِشقي الخُلودُ.

(خريف العام 2000)

***

الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *